بقلم - عادل اللبان
إن العدو الأكبر لأى دولة واقتصادها هو عدم الاستقرار؛ لأن التقدم يستدعى الاستثمار فى البشر والتعليم والصحة والمشروعات المدروسة والبحث العلمى، وكلها أمور تحتاج إلى الوقت ووضوح الرؤية واستمرارية السياسات الناجحة لتأتى بمردودها وثمارها.
وقد يأتى عدم الاستقرار من مصادر خارجية كالحروب والمواجهات العسكرية أو التجارية مع الدول الأخرى، وداخلية كالحروب الأهلية أو العصيان المدنى أو من أسباب طبيعية كالفيضانات والزلازل والأعاصير ذات التأثير المدمر، إلا أن أخطر أسباب عدم الاستقرار شطط ورعونة الحكومات فى اتخاذ قراراتها وفى فرض سياسات غير مدروسة أو مبررة تؤدى إلى زعزعة واختلال الأوضاع.
ولعل ما يحدث فى الولايات المتحدة الأمريكية، حالياً، يمثل نموذجاً جيداً للشطط والشطح السياسى الذى بدأ يؤثر فى الاقتصاد الأمريكى، وبالتبعية فى الاقتصاد العالمى، فبعد مرور سنتين من توليه زمام الحكم، يصعب حتى على أعتى أنصار الرئيس ترامب الدفاع عن تهور وعشوائية قراراته فى السياسة الخارجية والداخلية؛ فقد قرر فتح مواجهة تجارية واسعة مع الصين بفرض جمارك على صادراتها لأمريكا، دون تقدير لتأثير ذلك على المنتجين والمستهلكين الأمريكيين، ما أدى إلى تدهور كبير فى أسواق المال تخوفاً من التداعيات السلبية على النتائج المالية للشركات المدرجة التى تتعامل مع الصين، كما أنه ألغى اتفاقية التجارة البينية بين أمريكا ودول المحيط الهادئ (TPP) التى كانت تمثل ركناً أساسياً وناجحاً فى السياسة الأمريكية لاحتواء النفوذ الاقتصادى الصينى فى هذه المنطقة المتاخمة لها، كما قام بمناورات غير مفهومة لإعادة التفاوض شكلياً فى بنود اتفاقية التجارة الحرة لدول شمال أمريكا (NAFTA) زاعماً أن كل هذا حماية للمصالح الأمريكية الحيوية، رغم اتفاق أغلب المراقبين على الضرر الكبير الناتج من قراراته العشوائية، إلا أن أغربها كان رفضه العلنى فى شهر ديسمبر الماضى اعتماد موازنة الحكومة الأمريكية السنوية لعام 2019 البالغة 4.407 مليار دولار أمريكى، لأنها لا تشمل اعتماداً فرعياً بملبغ 5.7 مليار دولار أمريكى لبناء جدار على طول حدودها الجنوبية مع المكسيك، بزعم أن الهجرة غير الشرعية من خلالها وصلت إلى معدلات غير مسبوقة، وأنها تمثل معبراً للمجرمين والقتلة وتجار المخدرات، ثم أضاف الإرهابيين الإسلاميين إلى القائمة، مما يشكل خطراً جسيماً على الأمن القومى الأمريكى.
وحقيقة الأمر- حسب رأى المحايدين من أهل الخبرة- أولاً أن الهجرة غير الشرعية فى تناقص كبير، على مدى العقد الأخير؛ بسبب تحسن الإجراءات القائمة والمتبعة فى المعابر الحدودية. وثانياً أن الولايات المتحدة فى حاجة إلى عمالة «رخيصة»، خاصة فى القطاع الزراعى، توفرها جزئياً عن طريق هذه الهجرات، وأن الغالبية العظمى من المهاجرين ليس لهم سجلات إجرامية أو إرهابية. وثالثا أن معظم العبور غير الشرعى المتناقص ما زال يتم عبر المنافذ الرسمية بالالتفاف حول إدارات الجوازات والجمارك، لا عن طريق التسلل من الأماكن النائية. ورابعاً أن الكثير من المهاجرين غير الشرعيين يسعون إلى طلب اللجوء السياسى لضمان حق الإقامة مؤقتاً حتى حسم أوضاعهم، مما يستلزم الوصول إلى الإدارات الحكومية المتواجدة داخل المعابر الرسمية لا إلى تفاديها. وخامساً أن المطلوب هو تطبيق إجراءات تقنية متقدمة لتأمين الحدود بوسائل حديثة للرصد الإلكترونى وبالدوريات المتحركة وبطائرات المسبار وبأنواع أقل كلفة من الحواجز المانعة. وأخيراً فإن الاعتماد المطلوب لن يغطى إلا 10- 15% من كلفة إنشاء جدار أسمنتى بطول الحدود، أى أنه إجراء شكلى سياسى لا قيمة عملية له.
وقد اتفق الحزبان الجمهورى (حزب ترامب) والديمقراطى على هذه الحقائق، وبالتالى على عدم جدوى بناء الجدار المانع الذى لم يتم إدراج اعتماده فى الموازنة المقترحة على مجلسى النواب والشيوخ التى رفضها الرئيس ترامب، ولكنه ما زال حتى تاريخ كتابة هذا المقال يعاند، ويحاول فرض رأيه عنوة مستخدماً أسلوباً غريباً من الابتزاز، يقوم على شل الحكومة الأمريكية، بتجميد دفع رواتب حوالى 800 ألف من موظفيها، نظراً لعدم إقرار بند الرواتب المقرر فى الموازنة التى أوقفها رغم حساسية وضرورة هذه الوظائف، ليضرب بذلك مثالاً للتعنت والغرور والانفراد بالرأى الخطأ لم نتعود رؤيته إلا فى دول العالم الثالث.
والسبب فى هذه التصرفات العجيبة- بعيداً عن جنون العظمة وقلة الخبرة وانعدام المسؤولية- هو تراجع شعبية ترامب كثيراً فى الآونة الأخيرة، فصار يعتمد على مساندة حوالى 30% من الناخبين فقط من ذوى الميول المحافظة الأكثر تشدداً، الذين يؤيدون بناء الجدار رغم عدم جدواه، وهو يسترضيهم بأفعاله الطائشة ويقدم مصالحه فى إعادة انتخابه فى 2020 على مصلحة بلاده وأمنها واقتصادها.
إن اتخاذ القرار السليم مسؤولية الحاكم أمام خالقه، أولاً، ثم أمام شعبه فى الدول الديمقراطية. وإن الاستعلاء بالرأى الأحادى الجاهل أو تفضيل المصلحة الشخصية أو الفئوية على المصلحة العامة- يمثل نقصاً شخصياً، وإخفاقاً سياسياً يؤدى إلى عدم الاستقرار والفشل الذى سيحاسب عليه.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع