بقلم - إبراهيم عوض
المقصود بالسياسة الإقليمية المصرية مجمل الإجراءات والمواقف والتحركات التى تتخذها مصر فى المنطقة العربية والدول المتصلة بها فى الشرق الأوسط. هذه السياسة تتعلق بالأطراف الفاعلة فى الإقليم وبالنزاعات الناشئة فيه. يوجد مبرر نظرى لتحديد الإقليم بهذا الشكل لأن ثمة من يعتبر أن أى إقليم ترسمه النزاعات الناشئة فى منطقة جغرافية ما والعلاقات بين أطراف هذه النزاعات. غيبة الإجراءات والمواقف والتحركات، أو عدم اتخاذها، هما أيضا من قبيل هذه السياسة. أما الأصول الداخلية للسياسة فهى العوامل المحددة لها من داخل النظام السياسى المصرى. هذه العوامل تشمل كينونة النظام، أى المبادئ والقواعد التى وضعها لنفسه وتحكم عمله. من هذه العوامل أيضا تحقيق المصالح الأمنية والاقتصادية للبلاد كما يحددها النظام السياسى.
***
كينونة النظام تكمن فى اعتبار أن التعددية والخلاف فى الرأى وتضاده، كلها تبديدٌ للجهود والموارد والوقت، وعرقلةٌ للسعى نحو تحقيق أهداف النظام السياسى سريعا. من كينونة النظام أيضا مكافحة الإخوان المسلمين ومشروعهم للمجتمع والدولة، ومقاومة الإسلام السياسى عموما، ومحاربة الجماعات الإرهابية التى تهدد المجتمع والدولة وتعتدى عليهما. الليبراليون واليسار أسباب للضيق غير مقبولة بدورها. أى طرف فى الإقليم يدعم هذه الكينونة أو يتفق معها، السياسة الإقليمية ودودةٌ معه وتوثق علاقات مصر به. الحرص على مساندة الاقتصاد المصرى المعتل بسبب العجزين الداخلى والخارجى والدين العام وانخفاض معدل الاستثمار أصل آخر من الأصول الداخلية للسياسة الإقليمية لمصر. هذه العوامل تفسر العلاقات المتميزة بين مصر وكل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة فى السنوات الأربع الأخيرة، فهذان البلدان خصمان عنيدان للإخوان المسلمين وعداؤهما للجماعات الإرهابية لا يقل عن العداء المصرى لها. والبلدان أيضا لا طاقة لهما لا باليسار ولا بالليبراليين. ما يتعلق بالإخوان المسلمين فى كينونة النظام السياسى المصرى وموقف كل من السعودية والإمارات منهم يفسر أيضا الموقف المشترك للبلدان الثلاثة من قطر وإجراءات المقاطعة المتخذة إزاءها، باعتبار أن قطر تدعم الإخوان المسلمين فى تحركاتهم ضد مصالح كل منها. فى المقابل، فإن العلاقات مع تونس لا تبدو حميمية ربما لأن هذه الأخيرة تأخذ بالتعددية منذ تغيير النظام السياسى فيها.
أما العوامل الاقتصادية فمنها أن السعودية والإمارات كانتا مصدرين لمليارات كثيرة من الدولارات مُنحت مساعدةً لمصر أو أودعت فى بنكها المركزى مساندةً للجنيه المصرى، وبصفة خاصة فى سنتى 2013 و2014. هذه المساعدات انخفض مقدارها، إن لم تكن قد انعدمت تماما الآن، إلا أنها إما مديونيات أو مازالت ودائع فى عهدة مصر. من العوامل الاقتصادية أيضا أنه يوجد ما يقترب من المليونين من العمال المهاجرين المصريين فى البلدين يخففون من الضغوط على سوق العمل المصرية ويرسلون إلى مصر سنويا تحويلات بمليارات عديدة أخرى من الدولارات، يساعدون بها أسرهم فى الظروف الاقتصادية الصعبة التى تعيشها ويدعمون ميزان المدفوعات المصرى.
الأصول الداخلية، من كينونة النظام السياسى إلى العوامل الاقتصادية والأمنية، تنازعت فيما بينها أو دعمت كل منها الأخرى عندما تعلق الأمر بالنزاعات الأهلية الثلاثة فى الإقليم ألا وهى النزاعات اليمنى، والسورى، والليبى. عوامل كينونة النظام والعوامل الاقتصادية تفسر معا اعتناق الرواية السعودية للنزاع فى اليمن والانضمام المعلن عنه للتحالف الذى تقوده السعودية فى الحرب فيها. غير أن مصر أحجمت عن المشاركة فى النزاع بشكل ملموس. هذا فعل العامل الأمنى الذى يعتبر أن أى تحرك عسكرى خارجى على بُعدِ ما يزيد على الألفى كيلومترا، وخاصة فى اليمن التى لم تخمد بعد لدى كل مكونات النخبة والمجتمع المصريين ذكرى التجربة المصرية فيها فى الستينيات من القرن الماضى، أى تحرك مصرى من هذا القبيل غير مقبول لتأثيره المحتمل على القدرة على تحقيق الأمن أو على حفظه فى مصر نفسها. العوامل الاقتصادية دعمت من العوامل الأمنية فلا قِبَلَ لمصر بالإنفاق على مثل هذا التدخل الذى يفترض استخدام أدوات برية وبحرية وجوية. ولا يتصور أحد أن تقبل مصر تمويلا خليجيا لأى تدخل خارجى لها.
فى النزاعين السورى والليبى، عوامل الكينونة والأمن تتنازع فيما بينها أو تدعم بعضها بعضا أيضا، بل إنه قد يحدث توتر بين بعض عوامل الكينونة نفسها. النظام الحاكم فى سوريا فيه سمات مقبولة لدى النظام السياسى المصرى لأنها سمات تتفق مع كينونته، فهو بدوره نظام يمقت التعدد ويكبته منذ عشرات السنين، ثم هو نظام يحارب الإخوان المسلمين والجماعات الإرهابية. غير أن النظام السورى يلقى الدعم من كل من تركيا وإيران، الأولى يعتبرها النظام السياسى المصرى قاعدةً للإخوان المسلمين والثانية هى تعبير عن أحد أشكال الإسلام السياسى. هذه معضلةٌ لأن مكافحة الإخوان المسلمين وأى شكل من أشكال الإسلام السياسى من ضمن عوامل كينونة النظام السياسى المصرى. ليس للعوامل الاقتصادية فعل على الموقف المصرى من النزاع السورى. ولكن يلفت النظر بشأن تركيا أن العوامل الاقتصادية أبقت على العلاقات الاقتصادية المصرية ــ التركية على الرغم من الخصومة معها بشأن مساندة الإخوان المسلمين.
***
فى ليبيا الوضع مختلف وهو حيوى لاعتبار أول وبديهى هو أن هناك عاملا جغرافيا جوهريا فى العلاقة معها يتمثل فى الحدود المشتركة التى تربو على الألف كيلومترا وما يترتب عليها من علاقات مجتمعية متشابكة. ليبيا منقسمة بين حكومتين على الأقل فى الشرق والغرب. فى الشرق حكومة تعادى الإخوان المسلمين وتحارب الجماعات الإرهابية ولا ذائقة لديها للتعددية. هذا يتفق تماما مع كينونة النظام السياسى المصرى، ومن هنا مساندتها لهذه الحكومة ودعمها لها. الحكومة فى الغرب قريبة من الإخوان المسلمين ولذلك فإن موقف مصر منها فيه تباعد وإن لم تقاطعها تماما لاعتبارين اثنين، الأول هو مسايرة جهود الوسيط الدولى المستندة إلى اتفاق الصخيرات المبرم فى ديسمبر 2015، والثانى هو الحرص على بقاء ليبيا موحدة وهو ما لا يمكن تحقيقه باستبعاد المكونات الممثلة فى حكومة الوفاق الوطنى الموجودة فى طرابلس الغرب. العوامل الأمنية والاقتصادية تتفاعل فيما بينها وهى تلتقى مع العامل الجغرافى. الجغرافيا تفتح المجال لتهديد الأمن المصرى، وهو ما حدث بالفعل فى هجمات إرهابية صادرة من ليبيا وفى اختطاف مواطنين مصريين يعملون فى ليبيا وقتلهم. تأمين الأراضى الليبية، وليس فقط تلك المتاخمة لمصر، لا غنى عنه، والسبيل إلى ذلك هو إعادة بناء الدولة وفرض سلطتها على مجمل الأراضى الليبية إن أمكن. هذا يفسر غض الطرف عن علاقة حكومة الوفاق الوطنى بالإخوان المسلمين. اعتبارات الأمن سادت هنا على عوامل كينونة النظام السياسى. فى هذا الموقف براجماتية لا بأس بها. ولكن ثمة عاملا اقتصاديا هاما يفترض وراء هذا الموقف وهو أن تحقيق الأمن وإعادة بناء الدولة الليبية من شأنهما إعادة تنشيط الاقتصاد الليبى، وبالتالى الطلب على اليد العاملة المصرية. سوق العمل الليبية، أكبر أسواق العمل الخارجية لليد العاملة المصرية، كانت تستوعب قبل النزاع الأهلى الليبى نحو مليونى عامل مصرى يخففون بدورهم الضغوط على سوق العمل المصرية ويحولون مدخراتهم إلى أسرهم وإلى الاقتصاد المصرى.
***
النزاعان الدوليان واحد قديم هو العربي ــ الإسرائيلى الذى صار فلسطينيا ــ إسرائيليا وآثاره الوخيمة واضحة على كل الأطراف العربية التى مسته وهى مأسوية بالنسبة للشعب الفلسطينى، ضحيته الأولى. الثانى يراد أن يستبدل بالأول وهو جرى تركيبه على مدى العقود الماضية، وهو النزاع العربي ــ الإيرانى. النزاع الأول كان ثمة إجماع عربى عليه لعقود طويلة، أما الثانى فلم ينعقد الإجماع عليه فى أى وقت من الأوقات. الموقف من الإخوان المسلمين، ومكافحة الإرهاب الجهادى، وإغراءات التعاون الاقتصادى تدعو النظام السياسى إلى التقارب مع إسرائيل، بينما الإسلام السياسى فى إيران والخوف على الأمن المصرى، الذى يضخم آخرون فى الإقليم تهديد إيران له، مع غيبة آفاق للتعاون الاقتصادى معها، خاصةً بعد العقوبات الأمريكية التى ستفرض عليها، يباعد بين إيران ومصر.
ولكن، هل تبقى أيُ سياسةٍ ثابتة جامدة لا يداخلها تعديل؟ ثم هل مخرجات السياسة المتبعة هى أفضل ما يمكن أن تحققه مصر فى الإقليم؟ لقد اعتبرنا أعلاه أن كينونة النظام السياسى والعوامل الاقتصادية والأمنية، فضلا عن الجغرافية فى حالة ليبيا، هى التى تحدد السياسة الإقليمية المصرية وبالتالى مخرجاتها ونتائجها. هل العوامل المذكورة ثابتة الطبيعة والمقدار؟ وهل هى كل العوامل التى تستطيع أن تشكل السياسة الإقليمية وأن تعظّم مردودها لمصر وللإقليم ودوله وشعوبه؟ إعادة النظر فى كينونة النظام السياسى وبث الحيوية فيه، وتشجيع إنتاج الأفكار وتعددها، والاستفادة من مراكز البحث والدراسة، ومن المجتمع المدنى ومقارباته ومبادراته، ومن مجتمع سياسى صحى غير مصطنع، من شأنهم أن يثروا النقاش العام بشأن مصالح مصر وأن يفتحوا قنوات اتصال مع مجتمعات الإقليم، فيكون هذا النقاش أساسا لسياسة متجددة. مثل هذا النقاش سيعيد هو نفسه تفسير المصالح الأمنية والاقتصادية فى اتجاه سياسى أكثر اتساعا، يأخذ فى اعتباره الماضى والحاضر والمستقبل. فى مصر إمكانيات إن لم يُستَفَد منها ستوأد تماما وتضيع إلى الأبد وتفقد هى بذلك مصدرا معتبرا من مصادر قوتها. هو مصدر اعتراه الوهن، ولكنه مازال موجودا حتى الآن. إمكانيات المجتمع المصرى فى القرنين الماضيين هى التى رفعت من شأن مصر فى الإقليم من العراق وإيران إلى المغرب، ومن سوريا وتركيا إلى اليمن.
ما يطمئن بعض الشيء هو أنه لا يمكن لأحد أن يلغى آثار التاريخ تماما، سواء أكان هذا التاريخ قديما أو من باب أولى حديثا أو معاصرا. وعلى أى حال، بخلاف الإخوان المسلمين والسلفيين، ليس متصورا أن يرغب أحدٌ فى إلغاء التاريخ الحديث والمعاصر لمصر، المادى منه والمؤسسى والثقافى
.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
الاقتباس
كينونة النظام تكمن فى اعتبار أن التعددية والخلاف فى الرأى وتضاده، كلها تبديدٌ للجهود والموارد والوقت، وعرقلةٌ للسعى نحو تحقيق أهداف النظام السياسى سريعا.
نقلا عن الشروق القاهرية