وسط الارتباك المزمن في الوضع السياسي اللبناني يواصل بعض الأطراف المحليين الإيحاء بأن انتخاب رئيس جمهورية يشكّل الحلَّ المنشود. غير أنَّ انتخاب الرئيس لا يعني كثيراً في غياب جمهورية تتآكل وتذوي يوماً بعد يوم.
لا شكَّ في أن انتخاب الرئيس سيشكل جرعة إيجابية، ولا سيما، إذا تمكّنت الجهات المعنية – داخلياً وإقليمياً ودولياً – من التفاهم، ولو ضمنياً، على الإطار والدور المستقبليين للبنان.
وأيضاً إذا ما ذُلّلت الصعاب التي حالت دون ملء الفراغ الرئاسي منذ آخر أكتوبر (تشرين الأول) 2022، وهذه الصعاب تعرفها جيداً الجهات المعنية التي تتمثّل راهناً بسفراء «اللجنة الخماسية» (الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة العربية السعودية ومصر وقطر)، وتدرك منذ زمن طويل تشابكاتها على مستوى المنطقة.
هنا، طبعاً لا مفرَّ من إضافة عامل جديد إلى تعقيدات الوضع اللبناني؛ «حرب تهجير غزة» وإفرازاتها، وفي طليعتها:
أولاً: تصاعد العدوانية الإسرائيلية الشرسة التي فجّرها هجوم «حماس» في غلاف قطاع غزة. وثمة من يقول اليوم إنه ما لم تسقط «حكومة الحرب» الإسرائيلية الحالية عبر خلاف جدّي بين رئيسها بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت (وكتلته المكوّنة من 5 نواب)، ويتسبب في سقوطها بانتخابات جديدة... فلن يكون ثمة سبيل لاحتواء جموح القوى المُوغلة في التطرّف التي يعتمد عليها نتنياهو.
ثانياً: ربما تكون حرارة مشروع «وحدة الساحات» الإيراني قد فترت بعض الشيء، لكن طهران ما زالت قادرة على التفاوض بالنار والمسيّرات مع واشنطن على طول الحدود اللبنانية - الإسرائيلية. وهذا «التفاوض» المدمّر في «سنة انتخابات رئاسية» أميركية، أثمر حتى اللحظة:
1- مأساة تهجير من الجنوب اللبناني.
2- زيادة «راديكالية» سكان المستوطنات الإسرائيلية الشمالية وتحمّسهم للحسم العسكري.
3- ضغوطاً سياسية وأمنية متزايدة على الدول العربية، سواءً المحيطة منها بإسرائيل أو المقابلة لإيران في منطقة الخليج.
4- منح فرصة للرئيس الأميركي السابق والمرشح الرئاسي الجمهوري المرتقب دونالد ترمب للمزايدة أكثر فأكثر على رئيس ديمقراطي يحاصره من جهة مناصرو إسرائيل في الكونغرس... ومن الجهة المقابلة مناوئوها وسط شباب جامعات أميركا.
ثالثاً: «التهجير الداخلي» في لبنان من المناطق الحدودية المستهدفة بالقصف الإسرائيلي يتواكب مع حملات إعادة اللاجئين والنازحين السوريين «طوعاً» (!). وللعلم، هذه الدعوات تنطلق أساساً من اعتبارات وحسابات طائفية، لكنَّها تتعزّز اليوم بواقع اقتصادي ومعيشي مأزوم وضاغط. وخلال الأسبوع الماضي، أدلى أمين عام «حزب الله» حسن نصر الله بدلوه، مقترحاً دفع اللاجئين والنازحين السوريين دفعاً إلى أوروبا، ليكمل بذلك «المهمة الديموغرافية» التي اضطلعت بها طهران بدءاً بالعراق (بعد 2003) ومروراً بسوريا (بعد 2011) لإعادة رسم خريطة المشرق العربي، ربما عبر تقاطع مصالح مع مشروعات إسرائيل «الترانسفيرية». وهذه مصالح يخشى المراقبون ألا تتوقف عند غزة، بل تشمل الضفة الغربية، وقد تمتد لمخطط «الوطن البديل»!
رابعاً: قد يكون من الصعب لملمة تراكم التعقيدات الإقليمية الخطيرة في الظروف الحالية. ولا يبدو منطقياً تجاهل احتمالات الانزلاق إلى «سيناريوهات» كارثية غير محسوبة. وفي الوقت نفسه قد لا يكون أيضاً من الحكمة – أقله بالنسبة لواشنطن – تأجيل نزع فتيل التفجير إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، التي قد يفتح فوز ترمب فيها الباب على كل الاحتمالات.
بالتالي، فإنَّ الدول الممثلة بـ«اللجنة الخماسية» تتصرّف لبنانياً آخذة في الحساب كل العوامل المؤثرة في نسيج لبنان وواقعه، لكنَّها في نهاية المطاف لا تمسك بكل الأوراق. لقد مارس الطرفان غير العربيين فيها، أي الولايات المتحدة وفرنسا، حتى الآن سياسة مرنة إزاء سياسات طهران في المنطقة، وفضّلا التعايش مع أدواتها الإقليمية، تفادياً لحرب مفتوحة لا سقوف لها.
وفي المقابل، على الرغم من الضربات الأميركية «التذكيرية» و«التأديبية» المحدودة التي سددتها لإيران... فإنَّ القيادة الإيرانية ترى أن الاستراتيجية الابتزازية التي اعتمدتها، وتحكّمت بزخمها وفق الحاجة، استراتيجية أثبتت نجاحها. وعلى هذا الأساس، لا حاجة مطلقاً إلى التخلي عنها.
معظم المبادرات الأميركية والفرنسية إزاء لبنان منذ أواخر 2022 تعمّدت لدى تناولها ملفّي الرئاسة والجيش، خاصة، تحاشي التعامل مع واقع «الدويلة الأقوى من الدولة» مفضّلة بدلاً من ذلك التركيز على حلحلة الإشكالات العابرة، واللجوء إلى المسكِّنات المؤقتة المفعول بانتظار تغيّر الظروف.
لكن التطوّرات الإقليمية خدمت استمرار ذلك الواقع، بل سرّعت انهيار «الدولة» لصالح «الدويلة». إذ أدَّى الإحجام عن فرض حل سياسي دائم وعادل على اليمين الإسرائيلي الحاكم إلى زيادة «صدقية» محوَر طهران، كما أدَّى التساهل مع هذا المحور إلى تشجيع ذلك اليمين على التعنت والتصعيد ونسف كل فرص السلام والاستقرار في المنطقة.