توقيت القاهرة المحلي 22:43:09 آخر تحديث
  مصر اليوم -

أوكرانيا: حقائق واعتبارات برسم موسكو والتحالف الغربي

  مصر اليوم -

أوكرانيا حقائق واعتبارات برسم موسكو والتحالف الغربي

إياد أبو شقرا
بقلم - إياد أبو شقرا

«نحن لا نصنع التاريخ، بل التاريخ هو الذي يصنعنا». كلمات بليغة من مارتن لوثر كينغ الابن، داعية الحقوق المدنية الأميركي الراحل.

حتى أكبر الكبار يظلون نتاجاً للبيئة التي نشأوا فيها، والمُثل التي أحاطت بهم، والمصالح التي تحكّمت في معيشتهم، والأطماع والمخاوف التي صقلت منظورهم إلى ما يحيط بهم. ومع أن قدرات المرء - وأيضاً المجتمع - تتفاوت إزاء مدى التأثير في تلك البيئة والنجاح في التفاعل معها، فإن ثمة حقائق موضوعية تظل أكبر وأقوى من أن تتأثر إلى ما لا نهاية... بفرد أو حركة أو تيار فكري.
في صميم الأزمة الأوكرانية الراهنة نجد أنفسنا أمام جملة من هذه الحقائق الموضوعية التي كانت موجودة قبل فلاديمير بوتين وستبقى بعده. وهذا طبعاً ما لم يحصل خطأ انتحاري في الحسابات، فتنزلق معركة «عض الأصابع» إلى حرب «الخيار صفر».
في اليوم الرابع من الغزو الروسي لأوكرانيا، الذي فاجأ البعض ولم يفاجئ آخرين، طبيعي جداً أن يكون السؤال الأول على كل شفة ولسان عن مآل الأحداث ورقعة دائرتها في المسرحين الأوكراني والأوروبي. ثم هناك سؤال ثانٍ ذو صلة... عن التداعيات الأبعد التي تتعلّق بما قد يتبلوَر عالمياً بناءً على مسار الأحداث الأوكرانية.
في السياسة ننسى أحياناً العامل الأهم في الصراعات السياسية والعسكرية، ألا وهو «التكلفة». وفي أوكرانيا ثمة مَن يراهن على أن عامل التكلفة سيقرّر ما إذا كانت القراءتان التاريخية والمصلحية لفلاديمير بوتين ستدفعانه أكثر في خيار الصدام والقضم، أم تفرضان عليه منحى أكثر براغماتية وتصالحية يقوم على المناورة بين مواصلة التصعيد، والاكتفاء المرحلي بنجاعة رسالة القوة، وخلق «واقع على الأرض» يضمن الغلبة... ولكن من دون استفزاز مفرط من شأنه استثارة مبرّر للانقلاب عليه.
في ظل المعطيات الحالية، واستناداً إلى تطورات الأيام الأربعة الأخيرة، اتضح للمتابعين التالي:
أولاً، أن الرئيس الروسي ما كان يناور عندما اختار «عرض عضلاته» العسكرية على الحدود، وبالأخص، في المناطق الحساسة ذات «الولاء الروسي» الثقيل بشرق أوكرانيا.
ثانياً، أن رد الفعل الغربي - الفاتر حتى الآن - كان مُرتقباً لدى الأخذ في الحساب الإشارات التي تلقفتها موسكو إبان السنوات الأخيرة، سواءً على صعيد تحاشي الغرب استفزاز روسيا علناً بضم أوكرانيا لعضوية حلف شمال الأطلسي «ناتو»، أو السياسات الغربية الانكفائية والمائعة حيال ملفات مثل إيران وأفغانستان، ناهيك من ضم روسيا تحت جناحها مناطق عدة في جمهوريات الاتحاد السوفياتي... منها شبه جزيرة القرم في أوكرانيا نفسها.
ثالثاً، أن المعسكر الغربي المواجه لروسيا يعاني من انقسامات عميقة، بعضها جلي وعلني وبعضها الآخر مستتر، إزاء طريقة «التعايش» الصعب مع العملاق الروسي، الذي يظهر وكأنه استعاد ذاكرته فجأة... وبدأ مسيرة انتقامية من هزيمته في «الحرب الباردة».
رابعاً، عطفاً على ما سبق، إذا كانت العلاقات بين واشنطن والاتحاد الأوروبي قد شهدت في الآونة الأخيرة تحسناً ملموساً مقارنة بأيام حكم دونالد ترمب، فإن العلاقات الأوروبية – الأوروبية ذاتها بعيدة عن المثالية. إذ خرجت بريطانيا من الاتحاد وسط مشاعر مرارة مفهومة، وتنامت قوى اليمين المتطرف في عدد من الدول الأوروبية على حساب القوى التقليدية المعتدلة. كذلك ازداد نفوذ قوى التطرف في الولايات المتحدة نفسها يميناً ويساراً، وفي الحالتين الأوروبية والأميركية كثيرون يتهمون موسكو بالضلوع في دعم قوى التطرف بهدف زعزعة المؤسسات وإثارة الشارع بالانتهاكات «السيبرانية» والترويج لـ«نظريات المؤامرة»، لا سيما بعد جائحة «كوفيد – 19».
خامساً، الملاحظ أن قوى دولية عدة فضلت، حتى اللحظة، النأي بنفسها عن مواجهة بين طرفين لديها حسابات ومصالح مع كل منهما. وبالتالي، فهي إما تنوي الميل إلى لعب دور «الوسيط» لاحقاً كي لا تعرّض مصالحها للخطر، وإما تتعمد توجيه إشارة تنبيه إلى أن صداقتها ليست من قبيل «تحصيل الحاصل»... بل لديها مصالح حيوية أصرّ الجانبان الروسي والغربي على تجاهلها حتى الآن.
العواصم الغربية تدرك سلفاً أن لا قدرة للقوات المسلحة الأوكرانية على مجابهة القوات الروسية في حرب ميدانية كلاسيكية مفتوحة. وهنا من العبث المقارنة بين حالتي أوكرانيا وأفغانستان لدى الكلام عن «حرب استنزاف»، لأسباب عديدة تبدأ بالأهمية السياسية والرابط القومي... ولا تنتهي بطبيعة الأرض. ثم إن أوكرانيا تعاني من نقطتي ضعف خطيرتين: أولاهما افتقارها إلى قوة ردع نووية بعدما تخلت طوعاً عن سلاحها النووي، وثانيهما افتقادها مظلة «ناتو» كونها ليست دولة عضواً في الحلف الغربي... وعليه فهو ليس ملزماً بالدفاع عنها فيما لو تعرّضت لاعتداء كما هو الوضع اليوم.
في ضوء هذا الواقع، لجأت دول التحالف الغربي الأطلسي إلى العقوبات الاقتصادية المكثّفة، وابتزاز موسكو بتمويل «مقاومة شعبية مسلحة» ورعايتها وتحريكها بأمل إرباك قوى الاحتلال الروسي من ناحية، والمحافظة على ما تبقى من سمعة التحالف وصدقيته في الشارع الأوكراني من ناحية ثانية.
ولكن هذا الخيار يحمل مجازفة كبرى مزدوجة بوجود مَن يشكون في تأثير العقوبات الاقتصادية على زعيم عنيد وصلب صنعت هويته السياسية طبيعته الأمنية، وقناعاته «السلافية» (التي لا تميز بين روسيا وأوكرانيا أصلاً)، وترقّيه الوظيفي في معارج نظام شمولي أمني تقاسم السيادة على العالم لعشرات السنين، ومرارته العميقة لخسارة هذه السيادة.
عند شخصية من هذا النوع الرهان على الخوف من «التكلفة» قد لا يكون رهاناً حكيماً.
هنا تبرز الاعتبارات الكفيلة بجعل التسوية السياسية ممكنة، وعلى رأسها التواصل البنّاء مع عدد من الجهات الدولية الفاعلة خارج أوروبا، والإصغاء إلى أصواتها وتفهّم أسباب ترددها في دعم التصدي الغربي للغزو، من دون تأييدها له.
على رأس هذه الجهات الصين، العملاق الطموح والمتعدد الحسابات الذي اختار حتى الآن الإمساك بالعصا من وسطها، فأحجم عن استخدام «الفيتو» في مجلس الأمن الدولي. ثم هناك تركيا «الجار» التاريخي للإمبراطورية القيصرية - السوفياتية – البوتينية، التي تشكل رأس «العالم التركي» الضاربة عرقياته في عمق مناطق النفوذ الروسي. وهناك أيضاً العالم العربي – وبالأخص دول الخليج – حيث أهم مناطق بدائل الطاقة وأسواق الاستثمار، والمكانتان الإسلامية والجنوب متوسطية.
إغفال القوى الغربية هذه الجهات لن يكون سياسة حكيمة أو مخرجاً لائقاً لأزمة قد تتجاوز اليابسة الأوروبية لتمس معادلات الاستقرار عالمياً... وتكون مؤشراً لنظام دولي جديد مفتوح على المجهول.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أوكرانيا حقائق واعتبارات برسم موسكو والتحالف الغربي أوكرانيا حقائق واعتبارات برسم موسكو والتحالف الغربي



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 15:58 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

نيقولا معوّض في تجربة سينمائية جديدة بالروسي
  مصر اليوم - نيقولا معوّض في تجربة سينمائية جديدة بالروسي

GMT 09:07 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

GMT 08:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان

GMT 01:15 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل ألعاب يمكن تحميلها الآن على هاتف الآيفون مجانا

GMT 06:21 2019 السبت ,19 كانون الثاني / يناير

نوبة قلبية تقتل "الحصان وصاحبته" في آن واحد

GMT 22:33 2018 الأربعاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد ممدوح يوجه الشكر للجامعة الألمانية عبر "انستغرام"

GMT 16:44 2018 الإثنين ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمن المركزي يحبط هجومًا انتحاريًا على كمين في "العريش"

GMT 03:36 2018 الجمعة ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

"طرق التجارة في الجزيرة العربية" يضيف 16 قطعة من الإمارات

GMT 01:03 2018 الثلاثاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة عمل العيش السوري او فاهيتاس بسهولة فى البيت

GMT 08:12 2018 الثلاثاء ,11 أيلول / سبتمبر

ليدي غاغا تُظهر أناقتها خلال العرض الأول لفيلمها

GMT 16:10 2018 السبت ,01 أيلول / سبتمبر

جماهير روما تهاجم إدارة النادي بعد ضربة ميلان
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon