بقلم: إياد أبو شقرا
خواطر عديدة مرّت في بالي لدى مشاهدتي طوابير الانتظار أمام محطات الوقود في لندن، وسط أزمة لم يستبعد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أن تمتد حتى نهاية العام الحالي. وفي هذه الأثناء، تدفع الولايات المتحدة من صدقيتها المسفوحة على تراب أفغانستان ثمناً باهظاً، وتلملم - أو تكاد - شتات سياسة شرق أوسطية ما عادت عيوبها خافية على أحد.
كثيرون في بريطانيا يحمّلون مغامرة الانسحاب الأحادي من أسرة الاتحاد الأوروبي (البريكست) المسؤولية الكبرى في الفوضى والارتباك الحاليين، ليس على الصعيد الاقتصادي والمعيشي فحسب، بل على الصعيد السياسي أيضاً. إذ تواجه لندن اليوم تحدّي تهديد الانفصال الاسكوتلندي بمكابرة قد لا تقل كارثية عن مغامرة «بريكست» نفسها. ولئن كانت لندن بالأمس تذرّعت بالخيار الديمقراطي عبر استفتاء شعبي للمضي قدماً بالانفصال عن أوروبا، فكيف ترفض اليوم الخيار الديمقراطي للاسكوتلنديين، فتمنعهم من الاستقلال، مع علمها أنهم صوّتوا إبان الاستفتاء على الانسحاب بغالبية كبيرة لصالح البقاء ضمن أوروبا؟ ثم أي بريطانيا يمكن تنتج عن انقسام نفسي وفكري ووطني إذا أصرّت لندن على منع استفتاء اسكوتلندي جديد على الانفصال تشير كل المعطيات إلى أنه سيفضي إلى انتصار المنادين بالاستقلال؟
حالة الانقسام الوطني المُعبَّر عنها في انهيار «التفاهم الوطني العريض» بين المكوّنات البريطانية، تتضخًم أكثر في الولايات المتحدة، حيث يواجه التياران المعتدلان داخل الحزبين الجمهوري والديمقراطي انحساراً في نفوذهم قبالة تنامي الشعبوية المتطرفة يميناً ويساراً. والمؤلم على الساحة الأميركية أن الانقسام – بل، الاستقطاب – تسارع وأعيد تشكيله في ضوء التغيّر الحاصل في النسيج الأميركي ديموغرافياً واقتصادياً وثقافياً وتنظيمياً. ولقد انعكس هذا التغيّر ليس في طبيعة الحزبين الكبيرين فحسب، بل في نوعية المحازبين والمناصرين أيضاً.
وفي حالة مُشتركة، على صعيد اليمين تحديداً، يبرز في كلٍّ من حزب المحافظين البريطاني والحزب الجمهوري الأميركي وجوه وقيادات من المكوّنات الأفريقية والآسيوية واللاتينية... التي كانت أحزاب اليسار والوسط ملاذها الطبيعي خلال النصف الثاني من القرن الماضي. ففي بريطانيا، يتحدّر رئيس الحكومة المحافظة - المتشددة في خطها اليميني - من أصل تركي، ووزراء المالية والداخلية والصحة من أصول هندية، ووزير التربية من أصل كردي، ووزير الطاقة والأعمال من أصول أفريقية... بل إن وزيرة الخارجية الحالية، وهي بيضاء مسيحية برجوازية، ابنة أسرة يسارية ناشطة!
في الولايات المتحدة لا يختلف الوضع كثيراً، إذ يتزايد حضور يمينيي اللاتينيين والأفارقة والآسيويين، في الحزب الجمهوري، بينهم في مجلس السيناتورات تيد كروز (تكساس) وماركو روبيو (فلوريدا) وتيم سكوت (ساوث كارولينا). ومن أحدث التطورات في هذا الاتجاه أن الجمهوريين اليمينيين من مناصري الرئيس السابق دونالد ترمب رشحوا هيرشل ووكر، وهو رياضي سابق متحدّر من أصول أفريقية (مثل السيناتور تيم سكوت) لخوض معركة مجلس الشيوخ المقبلة عن ولاية جورجيا، إحدى كبريات الولايات الجنوبية الحساسة عرقياً.
ومن ثم، فما حصل ويحصل في البلدين هو تغيّر في الثقافتين الاقتصادية والاجتماعية، ونشوء طبقة من العصاميين المُغالين في تثمين النجاح الفردي، وتغليبه على صحة الصالح العام والتعايش الحقيقي بين مكوّنات المجتمع. وربما جاءت البداية الفعلية إبان عهدي «العصامييَن المتشدّدَين» مارغريت ثاتشر ورونالد ريغان، اللذين اعتبرا أن الفرد يأتي أولاً، بل في حالة ثاتشر «لا يوجد شيء اسمه مجتمع».
في المقابل، بخلاف بريطانيا والولايات المتحدة، المنتصرتين في الحرب العالمية الثانية، تبلوَرت ثقافتان سياسيتان مختلفتان في القوتين الكبريين الخاسرتين: ألمانيا واليابان.
ألمانيا، المُدمَّرة والمُستباحة التي احتاجت إلى «خطة مارشال» للنهوض، وبالتالي تشكيل قوة أوروبية عازلة ومانعة ضد تهديد العملاق السوفياتي الصاعد بعد 1945، لعب الدور الأكبر في إعادة بنائها داخلياً وأوروبياً قائد حكيم اسمه كونراد أديناور. وعلى خطى أديناور، سار خلفه في قيادة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ، لودفيغ إيرهارد الملقّب بـ«مهندس المعجزة الاقتصادية الألمانية». ورغم تغيّر الحزب الحاكم لاحقاً، ثبّت الزعيم الاشتراكي فيلي براندت، عبر «السياسة الشرقية» تجاه موسكو، الدور المركزي والتوازني الثقيل لألمانيا في قلب القارة. ثم، بنى الحزبان، المحافظ والاشتراكي، معاً ثقافة التعايش والائتلافات والتداول السلس للسلطة أمام خلفية نجاحات ألمانية تتحدث عن نفسها. ولعل خير دليل على ذلك، نجاح تجربة أنجيلا ميركل، ابنة القس البروتستانتي وألمانيا الشرقية، مع حزبها المحافظ الكاثوليكي الجذور، وقيادتها بكفاءة تفاهماته العريضة مع الاشتراكيين والأحرار و«الخضر»... على امتداد 16 سنة من الاستقرار، في أعقاب إعادة توحيد البلاد المقسمة. واليوم حتى إذا ترأس الاشتراكي أولاف شولتز الحكومة الجديدة فإنه، أولاً مضطر لقيادة ائتلاف واسع، وثانياً كان نائباً لميركل ووزيراً للمالية في حكومتها.
اليابان بدورها، دُمّرت بعد قنبلتي هيروشيما وناغاساكي الذرّيتين وأعيد بناؤها من الصفر تقريباً. وأيضاً، في ضوء حسابات «الحرب الباردة» وانتصار الشيوعيين الصينيين ونشوب «الحرب الكورية»، لم تجد واشنطن خياراً غير مساعدة العملاق المهزوم وإنهاضه لمواجه التهديد الصيني الأحمر.
وهنا نجح «واقعيو» السياسة اليابانية في تأسيس نخبة سلطوية تجسّدت في اندماج الحزبين المحافظين الديمقراطي والحر في حزب كبير واحد... هيمن على الحياة السياسية معظم سنوات عمر «يابان ما بعد 1945». وكحال الانتقال السلس للسلطة في ألمانيا، أنجزت اليابان خلال الأسبوع انتقالها بانتخاب فوميو كيشيدا (64 سنة) زعيماً جديداً للحزب الديمقراطي الحر، خلفاً للزعيم ورئيس الوزراء الحالي السبعيني يوشيهيدي سوغا.
كيشيدا، وهو نائب عن مدينة هيروشيما، ما كان خيار الشارع الذي كان ميالاً إلى منافسه تارو كونو. لكنه بفضل نهجه التوافقي وكسبه ثقة قادة أجنحة الحزب الكبير فاز بفارق مريح، في سباق شهد مُنافسة رباعية دخلتها أيضاً وزيرتان من اليمين المتشدد داخل الحزب. وهكذا، كسب الاعتدال والتوافق المعركة، وتوافرت لليابان الفرصة أمام حكومة عريضة القاعدة مؤهلة لحل المشاكل الاقتصادية، وتستطيع قيادة البلاد قُدماً وسط تحدي «كوفيد - 19»، وتنامي التوتر في شرق آسيا، وارتباك السياسات الدولية للحليف الأميركي التقليدي.
التوافق والاعتدال، إذن، درسان قد يستفيد منهما «دوغماتيو» لندن وواشنطن هذه الأيام، وبالأخص، أن الأوضاع الدولية تبدو أقرب إلى المواجهة منها إلى التبريد والتعقّل، سواءً عبر قوى إقليمية شرسة ومغامرة وتوسّعية، أو قوى كبرى تحنّ بشدة إلى أيام «صراع الشرق والغرب».