بقلم: إياد أبو شقرا
ثمة تعابيرُ في التقارير الإعلامية تتحاشى التفسير العميق، مثل تقرير وكالة أنباء أمس عن مبادرة فرنسية – سعودية «لمعالجة الأزمة بين الرياض وبيروت».
ظاهرياً هذا الكلام صحيح، وهو ما ورد في بيان صحافي بمناسبة لقاء ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وضيفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
هذا هو ظاهر النصّ، لكن لدى النظر إلى ما بين سطور المباحثات، فإنني أزعم أنَّه لو كان قرار بيروت تأخذه بيروت... لما كانت هناك أزمة تستلزم المعالجة. ومن ناحية أخرى، ما كانت ثمة حاجة إلى دخول فرنسا على الخط بين دولتين عربيتين شقيقتين ربطت بين شعبيهما صلات الدم واللغة والثقافة لقرون خلت. وهذا الواقع عبّر عنه مباشرة وزير الخارجية السعودية الأمير فيصل بن فرحان منذ اليوم الأول عندما قال إن الأزمة «في لبنان وليست بين السعودية ولبنان».
وبالفعل، الإشكالية الراهنة تكمن في أن قرار بيروت لا هو لبيروت ولا هو لمصلحة اللبنانيين، واستطراداً، ليس في مصلحة العرب. وهنا بيت القصيد.
بطبيعة الحال، مسعى الرئيس الفرنسي في المملكة العربية السعودية وشقيقاتها الخليجيات مشكورٌ ومقدَّرٌ، إن كان لشيء فلغايات إنسانية تهدف إلى تخفيف معاناة ما تبقى من وطن محتل بسلاح أجنبي وقرار أجنبي، وهو ينهار اقتصادياً وثقافياً ومؤسساتياً وخدماتياً أمام أعين مواطنيه التوّاقين إلى اللحاق بإخوتهم في ديار الهجرة البعيدة.
ولئن كانت أخطر المؤشرات وأوضحها على هذا الانهيار تتمثل في السقوط الحر لقيمة صرف الليرة اللبنانية أمام العملات الأجنبية -وعلى رأسها الدولار الأميركي - وأزمة الدواء والطبابة في عز جائحة «كوفيد - 19»، فإن تداعي هيبة القضاء، والشلل الحكومي، والانفلات الأمني بفعل الضائقة المعيشية... آفات تفاقم الوضع وتهدّد البقية الباقية من السلم الأهلي أمام خلفية إحباط ونفور طائفي مريرين.
المسكّنات الموضعية في حالات مَرَضية معقدة كالحالة اللبنانية، قد تسكّن الألم هنا أو هناك، إلا أنها لا تزيل سبب الداء. وما يؤسف له أن اللبنانيين يعرفون، وأيضاً قادة المجتمع الدولي يعرفون أن الداء أكبر من لبنان. وأن سمومه تجاوزت خلافاتهم ومُناكفاتهم الصغيرة المُزمنة لأن ثمة حقائق تجاوز الحدود... لا بل أسقطت كل الحدود بين إيران وسواحل لبنان المتوسطية. وإذا كان المرء هنا يكرّر ويعيد الكلام نفسه، فإن هذه الحقيقة يجب أن تظل في البال بالتوازي مع تسارع الأحداث، بدءاً بمفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني... وانتهاءً بأزمات المنطقة المتعددة الساحات والأحادية المصدر.
بالأمس، سمعنا أن فريق المفاوضين الأميركيين في فيينا قفل عائداً إلى واشنطن، بعدما «اكتشف» أن الفريق الإيراني «لا يحمل مقاربة جديدة» خلال جلسة المفاوضات السابعة المنعقدة في العاصمة النمساوية. وهي الأولى التي تعقد في عهد الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي. ووفق التقارير فإن العملية التفاوضية علّقت أسبوعاً، وسط خيبة أمل أوروبية وأميركية مما اعتبره الأوروبيون والأميركيون تصلباً وانعدام جدية من الجانب الإيراني.
ولقد نقلت مصادر دبلوماسية أن الوفد الإيراني، برئاسة علي باقري كاني، طالب بتغييرات واسعة على نصوص مسوَّدة الاتفاقية التي سبق التفاوض عليها خلال الجولات السابقة، وصُدم المفاوضون الأوروبيون من الطلب الإيراني الساعي إلى تغيير نصوص أنجزت بنسبة تتراوح بين 70 في المائة و80 في المائة. ومن جانبه، اشترط باقري كاني في تصريح صحافي على الولايات المتحدة والحكومات الغربية تقديم ضمانات بأنها لن تفرض أي عقوبات جديدة على بلاده في المستقبل. ومعلومٌ، أن مسلسلَ الابتزاز التصعيدي كان قد بدأه وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان عندما اعتبر «رفع العقوبات خطوة أساسية» لإنجاح المفاوضات.
مراقبون كثر لم يستغربوا الموقف الإيراني في فيينا... بقدر استغرابهم «صدمة» المفاوضين الغربيين منه. إذ يفترض أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية الغربية باتت معتادة على «أسلوب المساومة» في عمليات التفاوض الإيرانية. وهي تدرك تماماً، عبر الحكومات الإيرانية المتعاقبة - «الإصلاحية» منها و«المحافظة» - أن الكلام المنمّق شيء والعمل على الأرض شيء آخر مختلف تماماً. بل إن مسيرة بناء البنى التحتية لقدرات إيران النووية تسارعت إبّان فترات حكم «الإصلاحيين» الذين كانوا يزعمون مد يد التفاهم إلى العالم من حولهم.
وأكثر من هذا، بينما خدعت إيران العالم غير مرة في مسائل التفتيش والتخصيب والتخزين، وأخفت أرقاماً مهمة لسنوات عن المنظمة الدولية للطاقة الذرّية، فإنها واصلت بناء وجودها العسكري والتنظيمي في عدد من الدول المجاورة خارج نطاق الموضوع النووي. واليوم، كما يعرف القاصي والداني، تتمتع إيران بحضور عسكري وسياسي ثقيل في كل من العراق وسوريا واليمن... ولبنان، الذي «يشغل» حاله المُزري بال الرئيس ماكرون.
الولايات المتحدة حتماً على بينة من الأمر تماماً، ولا أحد أدرى به من روبرت مالي مسؤول ملف إيران في الإدارة الأميركية... وجايك سوليفان مستشار الرئيس جو بايدن لشؤون الأمن القومي.
أيضاً القوى الأوروبية الغربية الكبرى الثلاث: ألمانيا وبريطانيا وفرنسا ملمة بما فيه الكفايات بحقيقة أن الاكتفاء بالتفاصيل التقنية لنِسب التخصيب وعدد المفاعلات والمدة الزمنية المطلوبة لتطوير أسلحة نووية يشكّل مجرّد جزء من الأزمة الإقليمية الكبرى... المُفضية إما إلى الانهيار الكبير أو إلى سباق تسلّح لا ينتهي.
إسرائيل تعتبر نفسها مُستهدفة بصعود النفوذ الإيراني. ولذا فهي تتحرك على جبهتين: التحشيد السياسي المعاكس، والتأهب العسكري للردع وتفادي الضربة الأولى. وبين الخيارين ثمة نافذة للمناورة من أجل «سقف» للتعايش مع «إيران كبرى» في المنطقة ولكن من دون الحاجة لسلاح نووي.
أما في لبنان، فقد بات إطباق طهران على القرار الداخلي عبر «حزب الله» حقيقة واقعة، سواء أقرّت بذلك القوى الغربية أم لا.
وإذا كان البعض قد صوّر الاستقالة المتأخرة لوزير ذي حقيبة ثانوية «اختراقاً» سياسياً يساعد التطبيع خليجياً، فمن الحكمة التذكّر أن القرار الفعلي في لبنان ليس بيد رئاسة الوزراء ولا رئاسة الجمهورية.
إنه في الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث يُفرج عن الحكومات، ويُرخّص للرئاسات ويُضغط على القُضاة، وتؤخذ قرارات «نسف» مؤسسات الدولة... الواحدة تلو الأخرى. وهذا ما يُفترض أن الرئيس الفرنسي قد اكتشفه بعد تعيين 3 رؤساء حكومة منذ تفجير مرفأ بيروت يوم 4 أغسطس (آب) 2020