بقلم: إياد أبو شقرا
ثمة أشياء ما عاد بالإمكان تجاهلها، ولو شكك كثيرون في جدوى التطرق إليها. وما حصل خلال الأسابيع القليلة الماضية على الساحة اللبنانية، وخاصة ما له تداعيات عربية، مرحلة مهمة جداً في عمر الأزمة الوجودية اللبنانية، وكذلك الدور الذي يلعبه الاحتلال الإيراني الفعلي على مستوى الشرق الأوسط.
تحديداً منذ 2006 – 2008 كانت كل المعطيات والمؤشرات قد أسقطت كل أوراق التوت التي تستر الواقع الاحتلالي بكل ما يحمله من عواقب... سواءً على صعيد نسف سيادة الدولة، أو إسقاط مؤسساتها (الإدارية والأمنية والقضائية والمالية والتعليمية... وغيرها) الواحدة تلو الأخرى. وفي المرحلة بين نهاية ربيع 2006 عندما أنهى «حزب الله» عسكرياً اعترافه الظاهر بوجود دولة في لبنان وأنهى «مواجهته» لإسرائيل جنوب نهر الليطاني، وحتى 2008 عندما استخدم فعلياً سلاحه داخل لبنان، بدأ مسار وضع اليد على البلاد، وتجاوُز الدستور، وأخذ الدويلة المحرّكة من الخارج دور الدولة الوطنية الهشة.
سنوات قليلة كانت أشبه ما تكون بمرحلة انتقالية خصّصها «حزب الله» والقوى التي تحرّكه «لهضم» ما سبق ابتلاعه، قبل الضربة القاضية على سيادة لبنان واستقلاله مع انتخاب العماد ميشال عون، مرشح «حزب الله» لرئاسة الجمهورية عام 2016. بعد هذا المفصل في عمر البلد، أقرّ قانون الانتخابات الذي أراده الحزب… فألحق هيمنته التشريعية بسيطرته الدستورية على رئاسة الجمهورية، وبذا تكاملت شروط الاحتلال الكامل برضا مسيحي قارب شبه الإجماع.
هذه التطورات داخل لبنان واكبتها الانتفاضة السورية، التي نجحت التدخلات الخارجية بين 2011 و2016 من تحويلها من ثورة شعب إلى حرب تهجير وتطهير مذهبي، ومرحلة مهمة من تنفيذ عدة مصالح دفعة واحدة، أبرزها:
- تسريع إيران مخطط الهيمنة الإقليمية، الذي انطلق تحت شعار «تصدير الثورة» عام 1979، قبل أن ينكفئ قبل الحرب العراقية الإيرانية الأولى، ثم ينشط بعد غزو النظام العراقي السابق للكويت، ويتصاعد زخمه الاستراتيجي بعد غزو العراق نفسه عام 2003.
- اطمئنان إسرائيل إلى اندلاع «حربين أهليتين» مفيدتين لها؛ الأولى داخل سوريا مع قتل وتهجير أكثر من 12 مليون شخص جلّهم من المسلمين السنّة. والثانية سنّية – شيعية تزّج عموم المنطقة في أحقاد ودمار وانهيارات قد تستمر لعقود بل لقرون.
- حلم تركيا بالعودة إلى لعب دور إقليمي مؤثر في المشرق العربي لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وتنصيب نفسها حامية للإسلام السياسي السنّي في وجه التمدّد الاحتلالي الإيراني.
- ضمان روسيا وجوداً دائماً لها في شرق المتوسط ومياهه الدافئة، بالحصول على قواعد بحرية وبرية وجوية معترف بها – بل ومبارك لها – دولياً داخل سوريا المستنزفة والممزّقة الأوصال.
- ارتياح «واشنطن - باراك أوباما»، بدايةً لتعزيز إيران «الثورية» دورها الإقليمي على حساب السنّة «الانتحاريين» - وفق تعبير الرئيس الأميركي السابق - ومن ثم تحويلها من خصم إلى شريك. ولاحقاً، ارتياح «واشنطن دونالد ترمب» لتخوّف المنطقة من تزايد دور «البعبع» الإيراني... ما سهّل التطبيع العربي وتسريعه مع إسرائيل.
تلاقي كل هذه المصالح دفعت ثمنه شعوب سوريا ولبنان والعراق وفلسطين.
إذ وفّر ظهور «السلاح السرّي» الذي تجسّد بتنظيم «داعش» وأمثاله من الجماعات المتطرفة، الذريعة لغض الطرْف عن التمدد الاحتلالي الإيراني والوجود الروسي في سوريا، وإعادة تأهيل نظام دمشق بعد حصر غايات التدخل الأميركي في محاربة «داعش». ومن جهة ثانية، تركّزت غايات تل أبيب – ومن خلفها واشنطن – في منع إيران من الاستحواذ على السلاح النووي ورفض تمركز قواتها وميليشياتها على طول خطوط الهدنة بينها وبين سوريا... ولكن من دون المساس بنظام دمشق وتهديد احتفاظه بالسلطة. هذا في سوريا، أما في لبنان والعراق، فلم تتخذ واشنطن، في عهديها الديمقراطي والجمهوري، ما يمس فعلياً بهيمنة طهران على البلدين. بل باتت ميليشيات طهران المذهبية في كل منهما المتحكمَ الحقيقي في مفاصل الدولة وقراراتها السياسية، مع الإخضاع شبه الكامل للمجتمع المدني ومؤسسات الدولة لسطوة سلاح فئوي غير شرعي، يأتمر بتوجيهات السلطة الإيرانية وينفذ مخططاتها ويفرض «ثقافتها» ومصطلحاتها ومفاهيمها، بقوة هذا السلاح والمال الفاسد المحتمي به.
وأما بالنسبة لما تبقى من فلسطين، فقد أدى تفجير الوحدة الفلسطينية من الداخل إلى إضعاف أي موقف فلسطيني، مفاوضاً كان أم صامداً أم مقاوماً. وبالتالي، ابتعد ولاء هذا الفصيل الفلسطيني أو ذاك عن الغاية الأسمى التي كانت دائماً مواجهة تحديات المستقبل بحد أدنى من الثقة والتضامن والتنسيق. ولقد كان الانفجار، أو التفجير، الذي وقع بالأمس في مخيم البرج الشمالي في مدينة صور بأقصى جنوب لبنان حدثاً لافتاً، لجملة من الأسباب، أهمها – كما قيل – أنه وقع في مستودع للأسلحة تابع لحركة «حماس». والمعروف أن العمق الديموغرافي لمدينة صور تشكله بيئة «حزب الله»، الحليف المباشر لحركة «حماس» ضمن ما يُسمى «محور المقاومة».
مخيم البرج الشمالي وغيره من مخيمات الفلسطينيين في لبنان، أساساً، مخيمات للاجئين تضم عائلات. ومع أن كل فلسطيني «مسيّس» – وهذا أمر طبيعي – فإن تخزين أسلحة وذخائر بهذا الشكل وسط المدنيين، وفي مخيم لاجئين يقع على بُعد أميال معدودة من خط الهدنة مع إسرائيل، يثير جملة من الأسئلة. وحتماً، ثمة وسيلة ما، أو وسيط ما، له دور في توصيل السلاح وتخزينه. وفي المقابل، أشك في أن مثل هذا السلاح يشكل «مقاومة» فعالة لآلة الحرب الإسرائيلية التي ترصد أرض جنوب لبنان من الجو على مدار الساعة، وبالأخص مواقع «حزب الله» والمخيمات الفلسطينية. كلمة «المقاومة» هنا، كما علّمتنا انتفاضة سوريا، لا علاقة لها بتحرير فلسطين أو مقاومة إسرائيل، بل تعني حرفياً «المشروع الإيراني في المنطقة العربية». ذلك أن حلب وحمص أبعد عن جنوب لبنان بكثير من حيفا وصفد، بل حتى تل أبيب. ومع ذلك قاتل «المقاومون» منذ 2001 في سوريا وقتلوا وهجّروا... بعدما صمتت صواريخهم جنوباً منذ 2006.
وحقاً، المؤسف أن الداعين لتأسيس نظام «مقاومة» في لبنان والعراق... إنما يشوّهون نقاء المقاومة الحقيقية بجعلها مجرّد «ورقة مساومة» دائمة في خدمة تحسين شروط إيران التفاوضية. ولقد آن الأوان لكي نتعلم مفرّدات أخرى أكثر صدقاً في «قاموس» السياسة الجديدة، ولا سيما على وقع مفاوضات الملف النووي الإيراني في فيينا.