في لبنان اليوم، كما في سوريا والأراضي الفلسطينية المحتلة، الفرضيات كثيرة والتوقعات أكثر... والمُعطيات غريبة؛ لكن ما تفرزه على الأرض أكثر غرابة.واللبنانيون، الذين يئنون تحت وطأة أزماتهم الاقتصادية والمعيشية، ويعيشون فراغاً دستورياً على رأس السلطة - ولو اسمياً - عيونهم وقلوبهم على ما يستجد على جبهة «جنوبهم»، وما الذي تخبئه لهم «ترسانة» حزب الله الدبلوماسية.
وبين موفد غربي آتٍ وآخر يحزم حقائب العودة والإحباط على وقع اللا حلول، يتفاقم الوضع فيما بات عملياً «بلداً محتلاً»... ساسته ضيوف ثقال عليه، وقراره خارج أراضيه.
ذريعة «حزب الله» في إشعال جبهة الحدود الجنوبية مع إسرائيل، كما يقول، أداء مهمة «إسنادية»... تنسيقاً وتضامناً مع ما يشهده قطاع غزة. نعم في لبنان، الممنوع من التمتع بحكم دستوري نتيجة احتلاله من قِبل «حزب الله»، تتواصل المهمة «الإسنادية» لقطاع غزة المحكوم من حركة «حماس» بعيداً عن سلطة فلسطينية شرعية... لكنها عاجزة ومعجّزة.
أمام خلفية العدوان الإسرائيلي التهجيري والاحتلالي، ووسط معارك فوق أرضين عربيتين تديرهما فعلياً «قوتا أمر واقع» خارج السلطتين الشرعيتين، تمثل أمامنا إيران، القوة الإقليمية التي تمارس مع الولايات المتحدة وإسرائيل، بطريقتها الخاصة، «مفاوضات شراكة» على إدارة المنطقة. وهذا الأسلوب من «التفاوض الميداني» أجادته القيادة الإيرانية منذ عقد الثمانينات.
في المقابل، بعد الحرب العراقية - الإيرانية، وعلى الرغم من الخطابات النارية والتهديدات المباشرة، ولدت حالة لافتة من «التفاهم الضمني» و«الأولويات المشتركة» بين معسكر طهران ومعسكر واشنطن - تل أبيب.
بل كلما ارتفعت حرارة التهديد اللفظي في الاتجاهين، كانت طهران توسّع دائرة نفوذها - بل احتلالها الواقعي - تدريجياً داخل العالم العربي، إلى أن شعر بعض قادتها الأمنيين بالثقة الكافية للتصريح بأن بلده يسيطر على أربع عواصم... وهو حتماً محق في هذا!!
هذا التوسّع داخل لبنان والعراق وسوريا واليمن، كما نتذكر، لم يحدث بغتة ولا في غفلة عن مُخطّطي السياسة والحرب الأميركيين والإسرائيليين. بل على العكس، ما كان ليحدث لولا «التسهيل» الأميركي الإسرائيلي في كل محطة.
فبحجة الوجود الفلسطيني المسلح، سُمح لإسرائيل باحتلال بيروت ونصف لبنان عام 1982، ولم ينتهِ ذلك الاحتلال عام 2000 إلا بولادة «حزب الله»، ثم بعد فبراير (شباط) 2005 تسليمه الهيمنة على لبنان...
وبذريعة سلاح صدام حسين النووي - غير الموجود - احتلت الولايات المتحدة العراق، وقبل انقشاع الدخان عن بغداد المحتلة عاد حلفاء الملالي من منفاهم الإيراني لتولي السلطة وضم أرض الرافدين إلى ولاية الفقيه...
وتحت شعار التصدّي لـ«داعش» أعيد تأهيل النظام السوري، حليف طهران «الممانع»، وتغاضت واشنطن والعواصم الغربية عمَّا حدث في سوريا، وتبخّرت «الخطوط الحمراء» التي وضعها باراك أوباما بـ«قدرة قادر». ولم يطُل الوقت حتى طمأن دونالد ترمب أركان نظام دمشق بأن الهدف من وجود القوات الأميركية فوق الأراضي السورية قتال «داعش» لا غير...
وأخيراً لا آخراً، لم تجِد المرجعيات الدولية في استيلاء الحوثيين على اليمن تهديداً لا للنسيج اليمني، ولا لدول الجوار، ولا لحرية الملاحة في المياه الدولية...
هذا السجلّ يعرفه كل متابع للتطورات السياسية والعسكرية في المنطقة، ويعرف أيضاً إشكاليات العلاقات الأميركية - الروسية من ناحية... والروسية - الإيرانية من ناحية ثانية.
مما لا شك فيه أن الحرب الأوكرانية خلقت واقعاً دولياً جديداً كانت له تداعياته على منطقة الشرق الأوسط. كذلك ثمة تداعيات لتنامي الدورين الصيني والهندي وتمدّد طموحيهما غرباً عبر المنطقة، وأيضاً تسارع الهروب الإسرائيلي من استحقاقات السلام على الرغم من ميل جهات عربية إلى خيار التطبيع، أملاً بإضعاف «الليكود» وإجهاض رهانه على التطرف.
في هذا المناخ، وجدت طهران الفرصة المناسبة لإعادة التذكير بدورها الإقليمي، والتأكيد على رفضها تجاوز مصالحها كلاعب سياسي وعسكري ونفطي مؤثر.
وهكذا عبر «حلفائها الاستراتيجيين» كما تعدّهم، و«أذرع طهران» كما ينظر إليهم الغرب، بدأت عملية التحريك يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وللأسف، جاءت العملية لتخدم غايات بنيامين نتنياهو، أسوأ قادة إسرائيل وأشدهم عداء للسلام وللعرب، وتُحدث معاناة إنسانية فظيعة في الأراضي الفلسطينية المحتلة... مع دخول واشنطن حملة انتخاباتها الرئاسية، وتصاعد شعبية اليمين المتطرف في أوروبا والهند، واحتدام الأزمة مع روسيا بسبب أوكرانيا.
ثمة مَن يقول الآن إن حقبة «التفاهم الضمني» و«الأولويات المشتركة» بين معسكر طهران ومعسكر واشنطن - تل أبيب سقطت وانتهت، وهذا يعني أن مواصلة طهران عملية «التفاوض الميداني» غدت مجازفة خطرة.
لكن في المقابل، ثمة من يرى أن واشنطن وتل أبيب وصلتا فعلاً إلى قناعة مؤداها أن القيادة الإيرانية ما زالت مقتنعة بأنها تملك ما يكفيها من أوراق اللعبة لكي تفاوض على نفوذها الإقليمي من موقع قوة. كذلك يرى هؤلاء أن حرب غزة أثبتت اعتماد إسرائيل الكامل والمستمر على الدعم اللوجيستي الغربي، كما بيّنت أن لدى «أذرع طهران» القدرة على المشاغبة والإرباك والتوتير الإقليمي... مستفيدين من تراجع الثقة عند كثيرين بإمكانية التوصل إلى سلام مع القيادة اليمينية الحالية.