توقيت القاهرة المحلي 22:43:09 آخر تحديث
  مصر اليوم -

وقى الله بلداننا من «الاعتبارات الإنسانية»

  مصر اليوم -

وقى الله بلداننا من «الاعتبارات الإنسانية»

بقلم: إياد أبو شقرا

مَن يتابع مثلي بشعف القنوات التلفزيونية الأجنبية المتخصصة بالتحقيقات الجغرافية والتاريخية، لا يقطع عليه لذة المتابعة سوى الإعلانات الخيرية والإنسانية التي تكثر على مثل هذه القنوات. وتتراوح هذه الرسائل الإعلانية بين مكافحة الأمراض المستعصية والأوبئة المتوطنة، إلى الفقر والجوع... مروراً بالمناشدة إلى تأمين مياه الشرب النقية وحماية الحيوانات المهددة بالانقراض أو التي تعاني من القسوة.
شخصياً، لا مانع عندي أبداً من دعم الأهداف السامية لهذه الرسائل الإعلانية، وبالأخص ما تعده مؤسسات دولية مرموقة كصندوق الطفولة الدولي «اليونيسيف» أو «صندوق حماية البيئة البرية» وغيرهما. لكن ما يعنيني، رغم تعاطفي وتأييدي المطلقين لها، أن بعضها من دون قصد يغيّب الجهات المسؤولة عن عدد من حالات المعاناة التي لا يجوز التعامل معها كأنها كوارث طبيعية.
كمثال، أنا لا أطالب منظمة دولية مثل «اليونيسيف» بالسكوت عن المعاناة الناجمة عن أزمة الجوع في اليمن، أو المياه الآسنة في دول أفريقية مضطربة، لكن التعامل مع حالات كهذه كما لو كانت نتائج لزلازل أو أعاصير... تعامل قاصر. ومع أن التبرع لضحايا أزمات سياسية المنشأ قد يخفّف المعاناة مرحلياً، فهو فعلياً يسهم في عمليتي إلهاء وتخدير خطيرتين، تتغاضيان عن واقع يتوجب وقفه عند حده. فلن تجدي نفعاً المناشدات الأممية الإنسانية لإغاثة أهلنا في اليمن، عندما تفشل المؤسسات الأممية السياسية والأمنية في وقف مخطط كالمخطط التوسعي الإيراني في جنوب البحر الأحمر، وخاصةً أن أثمان الصواريخ الباليستية والطائرات المُسيّرة التي يستخدمها الحوثيون ضد الشعب اليمني وأراضي جيرانه كافية لمعالجة محن الفقر والجوع والمرض في اليمن الحبيب.
وبما أن الشيء بالشيء يذكر، أمامنا التبرير الرسمي الأميركي لكسر الحظر على التعامل الاقتصادي مع نظام بشار الأسد في سوريا... وذلك بالسماح بتوريد الغاز المصري إلى لبنان عبر الأراضي السورية.
لقد برّرت دوروثي شاي، سفيرة الولايات المتحدة في بيروت، كسر الحظر - المدعوم بعقوبات «قانون قيصر» - بـ«الحاجة الإنسانية» للبنانيين الرازحين تحت هيمنة «حزب الله» - أي إيران -، وسط شحّ الوقود الذي يهدد قطاعات النقل والاستشفاء والتعليم وغيرها. وهنا أزعم أنه لكون الولايات المتحدة «دولة مؤسسات» فإن قراراً من هذا النوع اتخذ على أعلى المستويات في وزارتي الخارجية والدفاع ومباركة البيت الأبيض.
وكحال اليمن، حيث اهتم معظم الموفدين الأمميين بكل تفاصيل الأزمة اليمنية ما عدا الدور الاستراتيجي الذي يلعبه التمرد الحوثي في جنوب غربي شبه الجزيرة العربية، فإن «إنسانية» المبادرة الأميركية - وقبلها المبادرة الفرنسية - تجاهلتا عمداً السبب المباشر للأزمة السياسية، وتالياً الإنسانية، في لبنان. وهكذا، أضحى الموضوع «الإنساني» على ما يبدو «ورقة التوت» التي تستر عورة المقاربات السياسية الدولية المُلتبَسة... بمواكبة المفاوضات النووية مع إيران في فيينا.
من جهة أخرى، لا تختلف المقاربات في سوريا والعراق كثيراً عنها في اليمن ولبنان إلا في التفاصيل. ففي سوريا، تنحّت باريس تاركةً حماية الأقليات المسيحية «المشرقية» في عهدة موسكو. وغيّرت واشنطن تعريف «سوريا المفيدة» لاعتبارات نفطية من الغرب إلى الشرق، فصبّت اهتمامها على مناطق شرق الفرات. وكانت القيادة الأميركية من قبل، إبان عهدي باراك أوباما ودونالد ترمب، أيضاً قد غيّرت أولويّاتها السورية من ردع نظام دأبت على وضعه على قوائمها للدول الداعمة للإرهاب... إلى التصدي حصراً لتنظيم «داعش».
وبالتالي، حلّ «التصدي لداعش» في سوريا محل «الاعتبارات الإنسانية» في لبنان من أجل تبرير صرف النظر عن لب المشكلة وأساسها. وهذا، مع أن واشنطن، من واقع وجودها في مناطق شرق الفرات تشهد على عمليات التغيير الديموغرافي، لا سيما في جنوب دير الزور (البوكمال والميادين) تأميناً للممر الإيراني من طهران إلى بيروت. ثم إنها، لا شك، على اطلاع تام من الحليف الإسرائيلي على جهود مماثلة تُبذل في الجنوب السوري، سواءً في محيط العاصمة دمشق، أو في المحافظات الحدودية الجنوبية الثلاث: القنيطرة ودرعا والسويداء.
ونصل إلى العراق، الذي يتأهب لانتخابات يستبعد كثرة من المراقبين أن تحمل حلولاً جدية في ظل استمرار الاستعصاء السياسي، والزحف الدؤوب لتنظيمات «دويلة» الحشد الشعبي على «الدولة» العراقية. وهذا هو الواقع المؤلم رغم محاولات رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي للمحافظة على شرعية الدولة وهوية العراق الوطنية وعلاقاته العربية. وهنا، أيضاً، تطل بوتيرة «موسمية» عمليات «داعش»، كأنه مخطّط لها أن تشدّ العصب المذهبي الشيعي، وتؤمّن الذريعة والذخيرة لـ«الدويلة» كلّما تراجع نفوذها على شارعها.
ثم هناك الانسحاب الأميركي المبرمج من العراق، الذي يتوقع كثيرون أن يتحقق في ظل عقد الحكومة العراقية «هدنة» مع ميليشيات إيران العراقية تحول دون استهداف هذه الميليشيات أماكن تمركز القوات الأميركية. «الهدنة» تأتي ضمن اتفاق استراتيجي وقعته بغداد وواشنطن أواخر يوليو (تموز) الماضي. وهنا يأمل مراقبون عراقيون أن يشكل الاتفاق نصراً سياسياً للكاظمي... يعزز من جهة وضعه في معركة رئاسة الحكومة المقبلة، ومن جهة أخرى «يرفع أسهمه» في طهران مع القيادة الإيرانية المتعجلة انسحاب الأميركيين.
إزاء هذا المشهد الشرق أوسطي المقلق، يتضح الانشغالان الأميركي والأوروبي في التفاصيل تفادياً للتطرق إلى القضايا الأساسية، ربما لأنه لا توجد توافقات بالعمق عليها. ولعل هذا ما تكشفه ثلاث حالات:
- الأولى، تقاطع المصالح وسقوف النفوذ الخارجي في سوريا، وبالأخص نفوذ إيران الذي يسعى الجميع إلى تفادي بحثه، وحصر التفاوض مع طهران في الشق التقني من الاتفاق النووي.
- الثانية، شكل الانسحاب الأميركي من أفغانستان الذي صدم حلفاء واشنطن الأطلسيين، ووجه رسائل إنذار بالجملة حول مستوى التزام واشنطن وفهمها لمصالحها التكتيكية.
- الثالثة، الخلاف الأميركي - الفرنسي المفاجئ الذي فجّره إلغاء أستراليا صفقة غواصات فرنسية، وانضمامها إلى تحالف في شرق آسيا يضم الولايات المتحدة وبريطانيا ويهدف للتعامل مع الخطر الصيني في شرق آسيا وحوض المحيط الهادي.
منطقة فيها هذا القدر من التعقيدات والمشاكل، لا تُختصَر تحدياتها بالقضايا «الإنسانية»، التي رغم أهميتها تظل «الحصيلة» لا «السبب». وطالما تخلّت القوى العظمى عن مسؤولياتها، وانهمكت في مصالحها الضيقة، فإنها قد لا تنجو طويلاً من تداعيات سوء مقاربات معاناة الآخرين.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

وقى الله بلداننا من «الاعتبارات الإنسانية» وقى الله بلداننا من «الاعتبارات الإنسانية»



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 15:58 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

نيقولا معوّض في تجربة سينمائية جديدة بالروسي
  مصر اليوم - نيقولا معوّض في تجربة سينمائية جديدة بالروسي

GMT 09:07 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

GMT 08:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان

GMT 01:15 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل ألعاب يمكن تحميلها الآن على هاتف الآيفون مجانا

GMT 06:21 2019 السبت ,19 كانون الثاني / يناير

نوبة قلبية تقتل "الحصان وصاحبته" في آن واحد

GMT 22:33 2018 الأربعاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد ممدوح يوجه الشكر للجامعة الألمانية عبر "انستغرام"

GMT 16:44 2018 الإثنين ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمن المركزي يحبط هجومًا انتحاريًا على كمين في "العريش"

GMT 03:36 2018 الجمعة ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

"طرق التجارة في الجزيرة العربية" يضيف 16 قطعة من الإمارات

GMT 01:03 2018 الثلاثاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة عمل العيش السوري او فاهيتاس بسهولة فى البيت

GMT 08:12 2018 الثلاثاء ,11 أيلول / سبتمبر

ليدي غاغا تُظهر أناقتها خلال العرض الأول لفيلمها

GMT 16:10 2018 السبت ,01 أيلول / سبتمبر

جماهير روما تهاجم إدارة النادي بعد ضربة ميلان
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon