مألوفة عندنا الحكمة القائلة «خير لك أن تضيء شمعة من أن تلعن الظلمة». ولكن ماذا عن منارة علم وفكر وثقافة تهدّدها اليوم ظلمة السياسة ولعنة الفساد وجائحة قاتلة حصدت وتحصد الملايين، وتتسبب في بطالة عشرات الملايين وتحجر مئات الملايين من البشر في بيوتهم - إذا كانت لهم بيوت - على امتداد الأرض؟
ماذا عن منارة عمرها 154 سنة أسهمت في قيادة نهضة تنويرية غير مسبوقة في المشرق العربي، وصمدت أمام الحروب والمجاعات وتغيير الخرائط... لكنها تجد نفسها الآن محاطة بشرق أوسط أضاع البوصلة، فتصحّرت فيه الثقافة، وتصخّرت العقول، وتجلمدت القلوب وجاعت البطون، وصار التنوع فيه نقمة بعدما كان نعمة، وصار القبول بالتقسيم إنجازاً باهراً درءا لتفتيت لا نهاية له؟
ماذا عن منارة يسجل التاريخ أنها كانت ولا تزال أقدم نافذة للشرق على الغرب، وللغرب على الشرق، تلاقحت في كتبها ومقاعد دراستها وقاعات محاضراتها ومختبراتها العلمية الحضارتان العالميتان، وتلاقى الدينان التوحيديان العظيمان الإسلام والمسيحية، واتسعت بتسامحها وانفتاحها لكل الأقليات الدينية والعرقية من كل حدب وصوب؟
ماذا عن منارة سبقت في تاريخ تأسيسها، على يد دانيال بلس، بعض كبريات جامعات العالم، وأعطت العالم وما زالت تعطيه كفاءات ومواهب تتبوأ أرفع المكانات حيث حلت في رياح الدنيا الأربع؟
الجامعة الأميركية في بيروت، التي تمرّ اليوم بمصاعب حقيقية، ساهمت في مصاعبها عدة عوامل - كلها خارج إرادتها - ليست كأي جامعة أخرى.
إنها ليست مجرد جامعة... وأميركية. فلا كل الجامعات في العالم يليق بها هذا الاسم، ولا كل معاهد التعليم العالي الأميركية، أو التي تنتسب إلى الولايات المتحدة جغرافياً أو تمويلياً أو نمطاً تدريسياً، من مستوى واحد.
لا. نحن هنا نتكلم عن تراث كان أكبر من الهويّات التي عَبَرت عليها وبها. عن حالة استثنائية غير مسبوقة وغير متكرّرة لا في دنيا العرب ولا في الغرب.
فهي حتى عندما أسست تحت اسم الكلية السورية البروتستانتية عام 1866 كانت مشروعاً نهضوياً أكبر من اسمه. ومنذ البداية كان ثمة إدراك لدى المؤسسين لأهمية العلوم التطبيقية والبحثية؛ ولذا كانت كلية الطب من كلياتها الرائدة.
ومن ثم، بعد الحرب العالمية الأولى، وتحديداً، عام 1922، غُيّر الاسم إلى الجامعة الأميركية في بيروت. وبذا تخلّت عن الهوية الكنسية التي رافقت حقبة التأسيس، وتماشت مع المتغيّرات الجغرافية في حقبة الانتداب ما بعد سايكس - بيكو. وكذلك، بدلاً من أن تنزلق إلى الاجتهادات «القومية» التي نشطت في المشرق العربي خلال العقود التالية، فإنها اكتفت بالاسم الواقعي الجديد، أي «الجامعة الأميركية في بيروت».
وحقاً، خلال العقود التالية، كان حرم الجامعة الأخضر الجميل المطل على البحر، في منطقة رأس بيروت، ملتقى للأفكار وحلبة للجدال والتذاكُر.
في ممرّاته ارتفع صخب دعاة القومية السورية والقومية اللبنانية، وتحت أشجاره الوارفة بشّر العروبيون بالقومية العربية، وتحمّس الإسلاميون والعلمانيون والماركسيون والليبراليون والمحافظون الإكليريكيون... كل لوجهة نظره، وهذا يوم كان السلاح... المنطق لا الرشاش الأوتوماتيكي.
في هذه «الواحة» التي وصفها الصحافي البريطاني مايكل آدامز حاضرت عقول... ودرست مواهب. فيها كان قسطنطين زريق يقابله شارل مالك، وسعيد حمادة ومعه حنا بطاطو ويوسف أيبش. وفيها تخرّج عمر أبو ريشة وحافظ جميل وعلي الوردي، وكذلك حسن كامل الصبّاح وزها حديد.
هنا درس فارس الخوري وناظم القدسي وعمر السقّاف وفاضل الجمالي... وهنا أيضاً درس أحمد الخطيب ووصفي التل وحيدر عبد الشافي وسليم الحص وسعدون حمّادي...
هنا انطلقت الرائدات في عالمنا العربي... فريدة السليمان وليلى شرف وديانا تقي الدين وحنان عشراوي وثريا العريّض وسحر السلاب... وهنا تفاعل الرئيس الأفغاني أشرف غني والوزير الإيراني علي أكبر صالحي والدبلوماسي الأميركي - الأفغاني زالماي خليل زاد مع عالمنا وبيئتنا، فأحبونا بلا إغراء أو كرهونا من دون ضغوط.
هذه البيئة الفريدة في ثرائها المعنوي والفكري، تشكل النقيض الحي لكل ما نمرّ به اليوم، سواءً في موطن الجامعة الجغرافي لبنان، أو حاضنتها الإقليمية، منطقة الشرق الأوسط. وهذا الثراء المعنوي يهدده مسلسل الزلازل السياسية والهزات الاقتصادية، والآن جائحة «كوفيد - 19» التي وسّعت دائرة الهواجس، وشغلت مَن كان بإمكانهم أن يعوّضوا بسرعة تبعات الانهيار اللبنانية والفشل الإقليمي. فإبان التحديات السابقة، كانت البدائل الاحتياطية متوافرة، وتمكّنت «أسرة» خريجي الجامعة المنتشرين على امتداد العالم من دعمها بسخاء، حتى إبان الحرب اللبنانية (بين 1975 و1990). بيد أن الظرف الحالي، ما ترك مكاناً في العالم خالياً من هموم الوباء والبطالة وشد الأحزمة ومخاوف الإفلاس.
من هنا، اضطرت الجامعة إلى إصدار بيان صارحت فيه بحقيقة المصاعب الخريجين، ولبنان والمنطقة، بل كل من هو ضنين بالحفاظ على صرح نادر من صروح الثقافة والتعايش والتسامح. ومن ثم، دعت لتقديم الدعم بكل السبل، كي لا تضحّي الجامعة بموظفيها أو مستواها أو خدماتها التعليمية والطبية العلاجية، وذلك إلى حين يتجاوز العالم المحنة الحالية.
طبعاً، لبنان اليوم في وضع أسوأ بكثير من أن يسمح له بدعم مؤسسة لها عليه أكثر بكثير مما له عليها. والمنطقة العربية، أيضاً، فيها من المتاعب والهموم ما يكفيها، وأحياناً ما يزيد كحالتي سوريا والعراق.
بل حتى في الولايات المتحدة نفسها، حيث فقد نحو 15 في المائة من المواطنين الأميركيين وظائفهم بفعل الجائحة القاتلة وتداعياتها الاقتصادية، تأتي الأولويات المحلية على رأس قائمة اهتمامات المسؤولين. كيف لا والبلاد مقبلة خلال أشهر معدودات على انتخابات رئاسية وتشريعية محورية.
التحدي، جدّي إذن، ولكن، في اعتقادي، لا خيار إلا بالتفكير الإيجابي، واتخاذ القرار بإنجاح عملية الإنقاذ مهما كان الثمن.
ذلك أن بدائل الإنقاذ على لبنان ستكون مخيفة.
وعلى المناخ الفكري العام في المشرق العربي أمام أخطار «غول» الملالي وشبح «الدواعش» و«ظلامية» الليكودية التوسّعية، كارثية.
وعلى مستقبل الوعي والتسامح والتعدّدية، في ظل صراعات النفوذين الإقليمي والدولي على المنطقة، أكثر من مأساوية.