عنصر المفاجأة مفقود في الأحداث الخطيرة التي شهدتها طرابلس طوال الأيام الماضية. فلا يمكن لأحد كائنا من كان هذا الأحد، مواطنا بسيطا، أم مسؤولا في سدة المسؤولية الرسمية على مستوى كرسي المدينة أو كرسي الدولة ادعاء المفاجأة تجاه أعاصير الغضب المنطلقة ضد الشخصانيات السياسية والتغولات الطائفية المتواطئة أو المتقاطعة مع الأجندات الخارجية، حيث تداخل في مواجهات ليالي طرابلس الحزينة حساسيات وحسابات الأطراف السياسية النافذة مع الأجهزة الأمنية والعسكرية في تعليمهم على بعض، عبر استثمارهم على نقمة الناس وغضبها من واقع الفقر المدقع والمزري الذي يموته فقراء المدينة الذين انضم إليهم شرائح واسعة من الطبقة الوسطى سابقا.
الانهيار الشامل والوشيك، عبارة باتت محطة كلام الطبقة السياسية الذي فكّ ألسنتها كلام ساكن قصر بعبدا الشهير "رايحين على جهنم". إنها البشارة التي زفّها ميشال عون إلى اللبنانيين بعد انفجار بيروت الهيروشيمي، الذي ضاعف من غضب اللبنانيين واحتقارهم لرموز بلدهم التصرف المريب بالمساعدات المقدمة من دول شقيقة وصديقة، مثل طحين العراق ونفطه، وشاي سريلنكا، وسمك موريتانيا فضلا عن أجهزة الكمبيوتر وأيضا أجهزة التنفس الطبية لزوم مرضى جائحة كورونا، لكن احتقار اللبنانيين الأبرز لطبقتهم الحاكمة كان بسبب صمتها عن الإهانة الخطيرة التي وجهها الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون لهذه الطبقة، التي اكتفت بطأطأة رؤوسها وتنافسها في الحرص على المبادرة الماكرونية الموءودة وادعاء تنفيذها.
فكما خطفت طرابلس الأضواء مع 17 تشرين بتألقها وبهائها واتسامها بكل أشكال التعبير الحضاري والسلمي حتى باتت مضرب المثل بين ساحات وميادين الثورات. ها هي اليوم تخطف الأضواء مجددا عبر هذه الأحداث الخطيرة التي تواجهها، وهي الأحداث التي انطلقت بعدما بلغ السيل الزبى من أداء السلطة الذي بلغ مستوى غير مسبوق من اللامبالاة وعدم عمل مطلق شيء لإنقاذ لبنان ممّا بعد الانهيار الذي يمسك بمقوده أطراف منظومة الفساد والمال والسلطة والسلاح، وهو الانهيار الذي جعل فقراء طرابلس وجها لوجه مع أنفسهم من فقراء قوى الأمن الداخلي في سرايا طرابلس، يتقاذفون بمدافع المياه والرصاص المطاطي والقنابل المسيلة للدموع والقنابل الدخانية وهي أسلحة السلطة، يقابلها الحجارة وزجاجات المولوتوف الحارقة وهي أسلحة الفقراء والمحتجين.
لكن التطور الدراماتيكي حصل بعد إطلاق القوى الأمنية الرصاص الحي بحجة الدفاع عن النفس نتيجة إحساسهم بضغط المحتجين واقترابهم من تجاوز أسوار السرايا الحكومي تزامنا مع دوي أصوات قنابل غير صوتية. إنه الرصاص الرسمي الحي الذي ربما يستبطن ضمنا، استدراجا لرصاص حي مماثل. فمن الذي يمنع فاقدي الأمل بحياة كريمة من الخروج على السلطة ذات احتجاجات مقبلة مدججين بالأسلحة، في بلد يعج بكل أنواع السلاح الشرعي وغير الشرعي؟
وهو الرصاص الحي الذي ألهب غضب المحتجين فأطلقوا العنان لصرخاتهم وهتافاتهم وشتائمهم الغاضبة ضد رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان نبيه بري والرئيس المكلف سعد الحريري، إضافة إلى أمين عام حزب الله حسن نصرالله، وأيضا باتجاه رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل الذي استفز المحتجين بكلامه عن "تحريك الشارع المعروف الانتماء والتمويل" وغمزه من قناة "بعض مسؤولي الأجهزة الأمنية السابقين والحاليين".
شتائم غاضبة، سبقها وزامنها ولحقها، هتافات أخرى ممتدحة للجيش اللبناني وقائده جوزف عون، ما جعل الجيش ينسحب عن ساحة النور ومحيطها إلى مواقع خلفية، ما سمح للمحتجين برشق السرايا الحكومي وإصابة سيارات وعناصر فرع المعلومات بما تيسر من المولوتوف والحجارة، مع ما حملته هذه الإصابات من رسائل أمنية ومن تحت الحزام، ليعود الجيش اللبناني ويتدخل ويعمل على تفريق المحتجين لإنقاذ السرايا وقوى الأمن الداخلي فيها بعد اتصالات عليا رسمية وحزبية.
أداء الجيش اللبناني الميداني المتهاون مع المحتجين، وتدخله بعد فوات الأوان، وخراب البصرة المتمثل بإحراق مبنى بلدية طرابلس، وهو الإحراق الذي يعني ضمنا ضرب أبرز وأهم معالم المدينة التاريخية، سيما وأن للبلدية عدة مشاريع مالية واجتماعية تضامنية مع الحالات الأكثر فقرا. هذا الأداء المتأخر للجيش اللبناني رغم تواجده الكثيف في منطقة الاحتجاجات ومحيطها كان محل رصد وانتباه المراقبين، وأيضا محل انتقاد سعد الحريري على وقوف الجيش اللبناني متفرجا على محاولة إحراق السرايا والبلدية والمنشآت الأخرى.
فانتقاد الحريري للجيش اللبناني هو الانتقاد الثاني على هذا المستوى، إذ إن الانتقاد الأول مسجلة ملكيته الفكرية باسم حسن نصرالله، ما يشي وكأن سيادة الغوغاء على طرابلس تهدف إلى تأديب المدينة وتشويهها، كما يشي وكأن قائد الجيش اللبناني استجاب لما تردّد عن ضغوط لقيادة حزب الله تقول بأن استمرار الاحتجاجات يسمح لداعش بالعودة والتحرك في مثل هذه البيئة. داعش أو تدعيش ودعشنة المدينة هو البعبع الذي يلوح به كل من يجدون بطرابلس الشامخة والقوية خصوصا من حلف الأقليات مخربا على مشاريع الهيمنة الإقليمية والإيرانية خاصة.
وبالعودة إلى طرابلس التي تيتمت بعد رشيد كرامي كما قرر يوما الوزير السابق رشيد درباس. فطرابلس بوصفها من أبرز حواضر العرب، تعيش ومنذ سنوات طوال حالة من انعدام الوزن والتوازن لأن من تبوأوا كرسيها بعد رشيد كرامي ومن مختلف التيارات لم يرتقوا إلى مستوى المدينة وأهلها وتاريخها، رغم أن متنفذي المدينة تنافخوا شرفا لنجدتها وأطلقوا صرختهم المشابهة لصواريخ إيران الصوتية في تدمير إسرائيل خلال سبع دقائق ونصف.. "طرابلس لن تجوع"، رغم أن جوع المدينة مزمن وقديم، علما أن الفقر مستجد على المدينة التي تعرضت لإفقار ممنهج بفعل سياسات الحكومات والعهود المتعاقبة ما حوّل المدينة لصندوق بريد إقليمي.
إنه الجوع إذن، ذاك الذي يفتك بطرابلس بعدما فتكت فيها السياسات التأديبية والتخضيعية، بل إنه التجويع الممنهج والمتقن وقد رسّخ بعض الساسة الجدد عبره "الثقافة التسولية" التي اعتمدوها نهجا ومنهاجا هجينا ليركبوا على المدينة وينصّبوا عليها، عنها، وعن غيرها "مزهريات" في المجلس النيابي والحكومة. رغم أن طرابلس ولزمن غير بعيد مدينة قائدة ورائدة وغير تابعة لأحد خصوصا من خارجها، لكنها استُتبعت سياسيا وشُوّهت إعلاميا وأهملت إنمائيا واقتصاديا، فلا أحد يسأل أو يتساءل بعد هذا عن مآلات مدينة أو بلد تحل فيه لعنات "الاستتباع والتشويه والإهمال" الممنهجة والمبرمجة بهدف السيطرة والإخضاع وتأمين الممرّات الآمنة للزعامات الوافدة من عوالم لا علاقة لها بالسياسة وفنون الممكن وغير الممكن فيها بالمعنى الرشيد والحكيم والمسؤول.
إذن هو الاستتباع السياسي الذي همّش طرابلس وأفقدها وزنها وتوازنها تجاه نفسها ومعها لينعكس الأمر هزالا وتهميشا وتهشيما للمستتبع إياه الذي تعامل مع المدينة بلغة الصناديق، صناديق انتخابية تارة، وصناديق بريدية طورا، أما صناديق المشاريع التنموية والاقتصادية والاجتماعية فبقيت خارج طرابلس، وهو الخارج الذي له مع الفيحاء حسابات وحساسيات كثيرة ستضعه خارج كل الحسابات متى ما استعادت طرابلس دورها الريادي والقيادي، ولهذا كان لا بدّ من وأد وتشويه صورتها وتنكيس أعلامها التي اشرأبت مع فجر 17 تشرين.
ما شهدته طرابلس بالأمس، من باب الاحتجاج على قرار تمديد الإغلاق لمواجهة جائحة كورونا ومنع التجول وإقفال المؤسّسات وتعطل دورة الحياة الاقتصادية بفعل الجائحة غير الجائعة، دفع جموعا من المدينة إلى الشوارع تقول "نفضل الموت من كورونا، على الموت من الجوع"، فيما ضارب الطبلة يغني "طرابلس لن تجوع".
وما شهدته طرابلس يصعب فك شيفرته ببساطة، فاستهداف وشتم نواب المدينة ووزرائها وصولا لرئيس الجمهورية وما بينهما، بالإضافة لحسن نصرالله بوصفه رئيس السلطة الموازية والناظمة للسلطات الرسمية، يكشف أن فقراء المدينة الذين هم جزء أساسي من وجدانها الجمعي خلعوا حكامهم وطلقوهم بالثلاثة. وأن مراسم هذا الخلع والطلاق تجسّدت في الاحتجاجات التي اتخذ بعضها طابعا عنفيا وتخريبيا لمؤسّسات المدينة. وأن مفاعيل هذا الخلع والطلاق لا تنتهي بإحراق البلدية الذي يعني شيئا واحدا وهو أن كرة النار قد انطلقت بفعل سياسات السلطة الارتجالية والحمقاء. وهي السياسات التي يبدو أنها ستتخذ من إحراق البلدية ومحاولة إحراق السرايا مشجبا وذريعة للتعاطي مع طرابلس كملف أمني، وليس كقضية اجتماعية واقتصادية وإنمائية، وهنا مكمن الخطورة التي يرجح أن تنقل النار المشتعلة إلى غير منطقة في لبنان.