توقيت القاهرة المحلي 11:23:31 آخر تحديث
  مصر اليوم -

دروسٌ طالبانية متعددةُ الاتجاهاتِ ومختلفةُ العناوين "3"

  مصر اليوم -

دروسٌ طالبانية متعددةُ الاتجاهاتِ ومختلفةُ العناوين 3

د. مصطفى يوسف اللداوي
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

المفاوضاتُ ليست عيباً ولا تفريطاً، وليست ردة ولا خيانة، وليست اعترافاً وقبولاً، أو خضوعاً وخنوعاً، أو تنازلاً واستسلاماً، بل هي إن جرت على أصولها، وحافظت على ثوابتها، وتمسكت بشروطها، ولم تقدم تنازلاً يخل بها أو تقبل بشروطٍ تقيدها وضوابط تكبلها، فإنها تكون شكلاً من أشكال المقاومة، ووسيلةً من وسائل النضال، وقد تحقق بذكاء المفاوضين وحنكة الممثلين، وثباتهم على مواقفهم وإصرارهم على حقوقهم، وعنادهم في سبيل غاياتهم، ما عجزت عن تحقيقه البندقية، وما فشلت في الوصول إليه القوة.

ولست هنا أتحدث عن القضية الفلسطينية التي لا ينطبق عليها المثال، ولا يتشابه معها الحال، فهي لا تخضع للتجربة، ولا يجوز فيها المغامرة أو المجازفة، فالمفاوضات الفلسطينية مع العدو خيانة، وهي تفريطٌ وتنازلٌ، وهي مدعاة للخسارة والفقد، والتسليم والاعتراف، وهي تشريعٌ للغاصب وتقنين للمحتل، وهي تحريضٌ للآخرين للتقليد وتشجيعٌ لهم للتشبه، وتبريرٌ لهم للجريمة، فلا يجوز في قضيتنا الفلسطينية اللجوء إليها والقبول بها أصلاً وحكماً، شرعاً وقانوناً، ووطنية وقومية، فكيف الحال بعد التجربة الطويلة والمحادثات الفاشلة، والوساطات الكاذبة، والنتائج المشوهة والواقع المرير، الذي أنتجته سنوات الحوار والمفاوضات، وخلقته أوسلو وبقية الاتفاقيات، التي أثبتت عقمها وأظهرت فشلها، وأكدت على أصل بطلانها.
 
لكن حركة طالبان التي ما زلت أرى وجوب وأهمية دراسة تجربتها، وتقييمها من مختلف الاتجاهات، كونها التجربة الأحدث والأقرب إلينا والأكثر تأثيراً علينا، بعيداً عن تأييدها والإشادة بها كما يظن البعض ويعتقدُ، فهي لم تظهر حسناً بعدُ، ولم تبدِ تغيراً لافتاً أو تبدلاً حقيقياً، وإن كانت تبدو أنها على الطريق نحو التغيير الحقيقي لا الشكلي أو الظاهري، ولعل تجربتها تفيدنا كثيراً انطلاقاً من واقعها المرتبط مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعتبر سند الكيان الصهيوني وحاميةً له، إذ أنها وبكل الوجوه والاحتمالات والتصورات والخيالات، قد تمكنت من فرض إرادتها على الإدارة الأمريكية وأرغمتها، وأجبرتها على تقديم تنازلاتٍ موجعةٍ، ما كانت تظن يوماً أنها ستقدم عليها وستتنازل عنها.
 
صحيحٌ جداً أن دولة قطر هي التي سعت وبادرت، وعملت واشتغلت على إحداث شرارة التفاوض وتحقيق اللقاء بين الإدارة الأمريكية وحركة طالبان التي تستضيفها، ولكنها ما كانت لتقدم على هذه الخطوة لولا الموافقة الأمريكية، بل تأييدها ومباركتها إن لم أقل أنها هي التي طلبت وتمنت، وأنها التي سعت وحاولت، فحركة طالبان التي تتهم بأنها خشبية العقل جامدة السياسة، متطرفة الفكر متشددة السلوك والممارسة، ما كانت لتفكر يوماً بالجلوس على طاولة المفاوضات مع قاتلها ومحتل أرضها، وخالق فتنتها وصانع أزماتها، ولكنها وجدت نفسها أخيراً تقبل بالعرض الأمريكي، وتوافق على الخيارات المطروحة أمامها على الطاولة.
 
لكن الحركة التي قبلت بالمفاوضات، ووافقت على الحوار، وضعت جملةً من الشروط والتعهدات، وألزمت الولايات المتحدة بالتعامل معها والاستجابة لها، فهي لم توقف القتال أبداً، واستمرت في عملياتها النوعية ضد أهدافٍ أمريكية وحكومية، ولم تكن تسكت عن أي خرقٍ يقع من الجانب الأمريكي أو الحكومي دون أن ترد عليه بقوةٍ وعنفٍ، ورفضت مطلقاً القبول بوقف العمليات القتالية من طرفها ما لم توقف الولايات المتحدة الأمريكية وكل حلفائها جميع عملياتهم العسكرية، وهو ما تحقق على الأرض بالفعل.
 
اشترطت حركة طالبان على المفاوضين بالنيابة، وعلى الأصلاء في الحوار، وجوب الإفراج عن آلاف المعتقلين من عناصرها من سجون ومعتقلات الحكومة الأفغانية، ولم تباشر حوارها حتى رأتهم يخرجون من السجون، ولا يتعرضون للتضييق والملاحقة، حتى ولو التحقوا بمجموعاتهم المقاتلة على الجبال وفي الجبهات، ولم تقبل بمحددات الحكومة وشروطها، ولا بقوائمها وأسمائها، وإنما وضعت على الطاولة كشفاً بأسماء جميع المعتقلين، وأصرت على الإفراج عنهم جميعاً، وهو ما تم بالفعل.
 
لم تقتصر شروط طالبان على الأمريكيين بوجوب الضغط على حكومة كابل التي ترعاها، وإنما طلبت منهم الإفراج عن معتقليها في سجون باكستان وغوانتانامو، وهو ما تم بالفعل بالصورة والصوت، إذ أن مفاوضي حركة طالبان، كانوا هم أنفسهم السجناء في السجون الأمريكية الأصلية أو بالوكالة، وهم الذين انتقلوا إلى الدوحة، وجلسوا على طاولة المفاوضات، وطرحوا شروطهم، وحددوا مسارهم، وألزموا بها عدوهم.
 
لا شك أنه كان للإدارة الأمريكية شروطٌ مقابلة، ربما يكون بعضها سرياً ولم يكشف عنه بعد، لكن الأحداث الراهنة وتوالي الأيام أظهرت أن شروطهم كانت فقط في ضمان خروج قواتهم الآمن من أفغانستان، وعدم التعرض لهم وللمتعاونين معهم والراغبين في مغادرة البلاد خوفاً منهم، والالتزام بعدم الاقتراب من مطار كابل حتى يتم خروجهم الكامل من البلاد، ولعل هذا الشرط لا يدل على عزة طالبه بقدر ما يدل على خوفه وقلقه، فالولايات المتحدة الأمريكية التي قدمت تنازلاتٍ مقابل شرطها، ما كانت لتحققه بقوتها، ولو كانت تستطيع ما أقدمت على تمريغ أنفها، وتعريض سمعتها للنقد، وتوجيه اللوم الشديد لإدارتها ورئيسها على ما أطلقوا عليه "الخروج الفوضوي الذليل".
 
إن دولةً عظمى مدججة بكل أنواع الأسلحة، ومزودة بأحدث التقنيات العالمية، تهين نفسها وتلطخ سمعتها، وتتنازل عن ترسانتها العسكرية، بكل ما فيها من معسكرات وثكناتٍ وآلياتٍ ودباباتٍ وطائراتٍ ومروحياتٍ ومعداتٍ وتجهيزاتٍ وغيرها، يشير بوضوحٍ إلى أن مفاوضها الذي نجح في الميدان، واستعلى في القتال، قد نجح أيضاً في المفاوضات، وأخذ أقصى ما كان يتمنى، ولعله قدم تنازلاتٍ لشعبه، وتعهد بالالتزام لصالح بلاده، ووعد بالمشاركة السياسية وضمان حقوق الإنسان، وليس في هذا تنازلٌ مهينٌ ولا خضوعٌ مذلٌ، بل هو تأكيدٌ لعزة المقاوم، وترجمة لإرادة الواثق بالنصر والمصر عليه والساعي إليه.

 

     قـــد يهمــــــــك أيضــــــاُ :

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

دروسٌ طالبانية متعددةُ الاتجاهاتِ ومختلفةُ العناوين 3 دروسٌ طالبانية متعددةُ الاتجاهاتِ ومختلفةُ العناوين 3



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:42 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة
  مصر اليوم - أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة

GMT 10:08 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد
  مصر اليوم - وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد

GMT 09:50 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل
  مصر اليوم - نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل

GMT 00:01 2025 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

"لطفي لبيب يودع الساحة الفنية ويعلن اعتزاله نهائيًا"
  مصر اليوم - لطفي لبيب يودع الساحة الفنية ويعلن اعتزاله نهائيًا

GMT 14:55 2021 الخميس ,04 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 07:29 2020 الأربعاء ,17 حزيران / يونيو

ارمينيا بيليفيلد يصعد إلى الدوري الألماني

GMT 13:03 2017 الخميس ,07 كانون الأول / ديسمبر

"فولكس فاغن" تستعرض تفاصيل سيارتها الجديدة "بولو 6 "

GMT 18:07 2017 الأربعاء ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

المنتخب الإيطالي يتأهب لاستغلال الفرصة الأخيرة

GMT 07:24 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

دراسة توضح علاقة القهوة بأمراض القلب

GMT 22:13 2024 الجمعة ,07 حزيران / يونيو

بسبب خلل كيا تستدعي أكثر من 462 ألف سيارة

GMT 00:02 2023 الجمعة ,20 كانون الثاني / يناير

مبيعات فولكس فاغن تتجاوز نصف مليون سيارة في 2022

GMT 08:36 2021 الخميس ,07 تشرين الأول / أكتوبر

أيتن عامر تحذر من المسلسل الكوري «squid games»

GMT 20:44 2021 الأربعاء ,15 أيلول / سبتمبر

شيرين رضا تتعرض للخيانة الزوجية من صديقتها المقربة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon