كنت قد قررت أن أنكفئ عن مقاربة الشأن الإنتخابي النيابي، تحليلاً أو تبنياً لموقف أو استخلاصاً لنتائج، إنطلاقاً من إعتبار أن القوى السياسية التي ستتصدى للمشاركة في هذا الإستحقاق ستجد نفسها أمام مأزق البحث عن لغة صادقة تُقَرِبُها من الناس أو على الأقل تمنحها التبرير المنطقي لتجنيبهم هذا المأزق. لكن بصراحة وجدت أن بشائر الخطاب الإنتخابي لدى هذه القوى وبالأخص منها ما يعنيني مباشرة، خطاب ما يسمى «الثنائي الشيعي»، والتي بدأت تتداولها وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، تشكل إستفزازاً لكل مواطن لبناني حر، سئم اجترار المعزوفة الخطابية السياسية نفسها بعد الويلات الاقتصادية والإجتماعية والمعيشية التي تسببت بها هذه القوى من دون استثناء على مدى عشرات السنين.
المفارقة أن القوى السياسية المتصارعة كافة تعتمد التعابير نفسها: تاريخية الانتخابات، مصيريتها، أهميتها في تحديد مستقبل لبنان واللبنانيين، ضرورة المشاركة الكثيفة لئلا يتمكن العدو الداخلي ضمناً - الخصم علناً من الحصول على أغلبية تهدد وجود الجماعة الحزبية التي تتلحف الطائفة غطاءً... الى ما هنالك من توصيفات تؤدي الى النتيجة ذاتها: إعادة إنتاج منظومة إسقاط الدولة وسيادة منطق الطوائف وميليشياتها صغيرة كانت أم كبيرة.
أمر غريب وربما لا شبيه له في معظم الدول الديمقراطية أو التي تدّعيها، أن تتجرأ قوى تشاركت علناً وسراً في صناعة الإنهيار الكارثي الذي يعيشه اللبنانيون، على تجاوز آلام الناس ومعاناتهم في خطابها الإنتخابي، وأن تعمد الى طرح عناوين وجودية ساقطة أو أخرى مكررة تتعلق بالإستهداف، أو ثالثة تتناول خيارات حول نوع الوطن وشكله ولونه وأي لباس إقليمي أو دولي يجب أن يرتدي. وهم يعلمون مسبقاً أن كافة هذه العناوين ستسقط يوم الإقتراع وستعود هذه القوى بالتوافق والتواطؤ الى الآليات ذاتها التي امتهنوها لسنوات طويلة، والى تكريس محاصصتهم اللبنانيين وتصنيف كل فئة منهم على أنها الجمهور الحصري لهذا الطرف أو ذلك، كما سمحت لهم بتقسيم مناطق نفوذهم وفقاً لتكوينها الطائفي والمذهبي، إضافة الى تقسيم مساحات سطوتهم داخل الدولة على أساس القوة أو الزعيم الأكثر تمثيلاً لطائفته أو مذهبه أو دكانه السياسي، لا الأكثر نزاهة أو عدلاً أو وطنية!
أما الأمر الأغرب، فهو أن تجد تلك القوى في عقول العديد من اللبنانيين بعد كل هذه التجارب الفاشلة التي عاشوها، مساحة قبول وتفاعل وحتى اندفاع في بعض الحالات المستعصية على العلاج!
حزب الله
من المؤسف أن يضعنا الحزب بين خيارين كلاهما مُرٌّ: السكوت عن خطابه السياسي الإنتخابي المنسوخ عن خطابات سقطت بفعل عدم جدواها في معالجة هموم الناس وشكاويهم، أو التصدي لهذا الخطاب إنطلاقاً من عدم جواز القبول بالإستهزاء بعقول هؤلاء الناس وإفهامهم أنه لا ضرورة لأن تفكروا بحرية في رسم خياراتكم الانتخابية، نحن نفكر عنكم وما عليكم سوى التنفيذ الأعمى!
لكن المعضلة الأخطر تكمن في استحضار مقام «الألوهة» كمادة دعائية لحث المواطنين اللبنانيين الشيعة بالأخص على الذهاب الى صناديق الإقتراع، على اعتبار أن ذلك فعل «عبادة»!
إذ كيف تستوي المقارنة بين الورود الى المسجد للصلاة والتقرب الى الله سبحانه وتعالى، وبين الدفع الى مراكز الإقتراع للتصويت الى لوائح مليئة بالفاسدين وناهبي ودائع الناس والمال العام والجهلة بالتشريع والقوانين، أي عبادة تلك؟!
وإذا كانت هذه الدعوة قائمة على مفهوم «التكليف الشرعي»، فمن الذي أجاز استعمال هذا المفهوم لتشريع الباطل والفساد والظلم؟!
وبعد سؤالي بعض المختصين حول المعطى الإجتهادي غير المُلزم في فقهنا الجعفري، تبين لي أن التكليف الشرعي لا يصح أن يكون في غير نصرة المظلوم وإحقاق الحق والذود عن الأوطان والأعراض وحقوق الناس.
أما الخطاب الدنيوي فلا يقل عن الخطاب «العبادي»، إستغباءً للناس. فمن قائل بأن الحزب أدى ما عليه من واجبات في تقديم المستندات المُثبَتة حول الفساد والهدر والنهب في مؤسسات الدولة الى القضاء، لكن القضاء لم يحرك ساكناً؟!
ومن دون الدخول في تسمية حلفاء الحزب الذين يمنعون القضاة من القيام بواجباتهم خوفاً وتزلفاً، فإن القبول بهذه المقولة يمكن أن يدفع أصحاب النيات المُبيتة من أخصام الحزب الى مطالبته باعتماد الآلية نفسها في مقاربته للشأن الدفاعي في وجه العدو الإسرائيلي وفي تصديه للإرهاب التكفيري خارج الحدود. إذ أن التسليم للدولة ومؤسساتها في مواضيع يعلن الحزب ضمناً عجزه عن التصدي لإصلاحها ومعالجتها، وهي لا تقل أهمية على المستوى السياسي والإقتصادي والإجتماعي عن التصدي لأعداء لبنان، فلمَ لا ينسحب تسليمه هذا على المواضيع التي هي حصراً من إختصاص الدولة وفقاً للدستور والقانون؟!
الى قائل بأن المسؤولين اللبنانيين لا يريدون القبول بالمساعدات والتقديمات الإيرانية للبنان.
لماذا لا تصارحون اللبنانيين من هم هؤلاء المسؤولون؟!
إذا كانت رئاسة الجهورية من صنعكم وكذلك رئاسة المجلس النيابي وضمناً رئاسة الحكومة ومعظم الوزراء، فمن الذي لا يريد؟
وإذا كان هذا الأمر صحيحاً وهو كذلك، أليس غريباً أن تعاودوا التمسك بهم وضمهم الى لوائح الحزب الانتخابية وإعادة إنتاجهم في المجلس العتيد، مع أنهم حالات متهالكة فاشلة وفاسدة، وأليس السعي الى استجماع أكثرية كيفما كان عملاً من دون جدوى ولا منفعة للبنان ولقوته الكامنة في المقاومة!
الرئيس نبيه بري
سأعود معك الى محلة البوابة في مدينة صور في الخامس من شهر أيار 1974 (مهرجان صور)، حين قال الإمام القائد السيد موسى الصدر: «لا نريد علواً في الأرض ولا فساداً، نريد صيانة البلد، نريد إنقاذ البلد من الزمرة التي تتحكم بهذا البلد، نريد إنقاذ البلد من الذين اعتبروا الوطن مزرعة، يسرقون وينهبون، نريد سلامة الوطن، ولسنا طامعين بالحكم، ولا النيابة ولا الكرسي ولا أي شيء، شرفي أن أكون بينكم...».
أين أنت من هذا الخطاب التأسيسي لحركة المحرومين - أمل؟
لن أناقش خطابك، لأنه لم يعد لديك ما تخاطب الناس به.
سأكتفي بتذكيرك بهذا النص الذي كان من المفترض أن تسير على هداه.
أما القوى السياسية الأخرى من توابع الحزب أو أخصامه، فبكل صراحة لا يمكن لأي مواطن متابع لما تقولونه ويَرِدُ في خطاباتكم، خصوصاً في مهرجاناتكم في هذا الموسم الفولكلوري، لا يمكن له أن يجد فيها أجوبة على همومه الحياتية والمعيشية، ولا على أسئلته المستقبلية المُقلقة التي تتعلق بإمكانية الخروج من مأزق هذا الإنهيار الكارثي غير المسبوق في تاريخ لبنان. جُلَّ ما تقومون به لا يعدو كونه حفلات زجل قائمة على المفاخرة بصمودكم في وجه الآخر اللبناني المتآمر مع الخارج على الوطن، أو إدعاء بطولات كاذبة في إصلاح شؤون الدولة والناس، أو التلطي خلف مؤامرات مُفتَرَضة طالتكم ومنعتكم من تنفيذ برامجكم التي لو تحققت لكان لبنان اليوم جَنة من نعيم!
وعلى شاكلة هذا الخطاب الذي تتشاركه القوى السياسية كافة سيكون المجلس النيابي المقبل، هذا هو المستقبل الذي ينتظركم أيها اللبنانيون؟!