سِحْر السينما من الممكن أن تعثر عليه فى عدد قليل جدًّا من الأفلام مثل: (دوجمان)، أحد أهم أفلام مهرجان (الجونة)، فى تلك الدورة الاستثنائية التى تُسدل ستائرها مساء اليوم، فكان هو استثناء الاستثناء.
هل نحن بصدد (مربى الكلاب) كما يشير العنوان، أم أنه حالة إبداعية خاصة تتجاوز حتى الترجمة الحرفية للكلمة؟!.
تستطيع أن ترى المخرج وكاتب السيناريو لوك بيسون ينسج فيلمه من خلال علاقات خاصة تحمل لمحات أكثر مما تجد فيها من ملامح، اللمحة أنت تشارك فى صنعها.. أما الملامح، فإنها تحدد بدقة كيف تراها. السيناريو يتكئ على اللمحة التى تنفذ إلى الوجدان، وليس الملمح الذى يخاطب العقل.
كل لقطة تشارك أنت بقسط وافر فى قراءتها، وتلك هى ذروة الإبداع، لا أستبعد أبدا أن تجده بين الخمسة أفلام الأمريكية المرشحة لأوسكار 2024.
يظل الشريط يملك طاقته من خلال قدرته على أن تضيف أنت إليه، فهو يقدم لك أبطالا صامتين إلا عن النباح، أقصد الكلاب، إلا أن لهم مشاعر ومواقف وعقولا قادرة على التخطيط والتنفيذ، وعيونا تحمل نظرتها الكثير.. ظل المخرج حريصًا على أنها لا تغيب عن (الكادر) من خلال علاقة سحرية مع بطل الفيلم كاليب لاندرى جونس، الذى يؤدى دور (دوجلاس)، الشقيق الصغير فى عائلة قاسية جدا فى كل شىء.
الأب لديه حظيرة من الكلاب الشرسة يتاجر فيها، الأم خاضعة لإرادة الأب، أخ يعتقد أن عبادة الرب تتجسد فى الخضوع لهذا الأب القاسى، عندما يسأل الأب ابنه دوجلاس عمن يحب أكثر.. أسرته أم الكلاب؟، تأتى إجابته: (الكلاب)، فيلقى به إليهم فى تلك الحظيرة المترامية الأطراف، ونرى كيف تعبر الكلاب عن مشاعرها وتحضن الطفل.
طلقة رصاص مجنونة يطلقها الأب على ابنه، تصبح هى بداية لاكتشاف الجريمة، وهنا ننطلق أيضا فى مساحة أخرى يصبح فيها الابن هو الأب الجديد للكلاب، بعد أن كانوا هم آباءه، وبينهم خط مباشر من اللغة، ينفذون مباشرة أوامره، لا تسأل عن الشفرة أو الأبجدية المشتركة، فهى تظل أحد عوامل قوة الفيلم، إنك تقتنع وجدانيا وعقليا بوجودها، رغم أن المنطق المباشر ينفيها.
رحلة البطل تنتهى به إلى المحاكمة باتهامات السرقة والقتل، حتى لو كان هو (روبين هود) العصرى مع عصابة مدربة من الكلاب، فهو يأخذ من الأغنياء لينفق على الفقراء، هناك جرائم ارتكبها تبدأ بقتل أخيه يوم الإفراج عنه، بعد أن أمضى 8 سنوات بالسجن.. (دوجلاس) ليس مثلى الجنس ولا هو متحول، القراءة المباشرة له عند أول مساءلة قانونية توحى بذلك.
كما أنه يقدم عددا من أغنيات المطربة الأسطورة أديث بياف، فى أحد الملاهى الليلية، يشعر بالحب تجاه المطربة الجميلة التى علمته الغناء، وعندما يكتشف أنها تعيش قصة حب وستنجب، يبدأ فى توجيه عقاب قاسٍ لنفسه، ويسأل: ما الذى يملكه كرجل قعيد حتى تقع هى فى حبه؟.. الشخصية متحررة حتى من التصنيف النوعى المباشر، ولكنه يتقمص روح «مارلين مونرو» ويغنى.
الذروة الدرامية عندما يلقى القبض عليه وتتابع حالته طبيبة نفسية، تبدأ فى علاجه ويبوح لها بكل شىء، وعندما تسأله: لماذا كل هذه الثقة التى تدفعه لكى يعترف لها بجرائم تضعه تحت طائلة القانون؟
تأتى الإجابة إنه الألم المشترك بينهما، فهى أيضا تعانى.
وينتهى الفيلم بأن تشارك الكلاب فى خطة محكمة لفك أسره، وتحيطه وهو يذهب بيت الطبيبة التى تحتضن طفلها، وتتعامد النظرة مع برج الكنيسة.. وفى لحظات، نرى السماء تعانق البطل، بينما نتابع صعود الروح بكاميرا تأخذ وضع (عين الطائر)، تتسع دائرة (الكادر)، لنرى الكلاب فى وداعها الأخير له.
بعد نهاية العرض، سألنى كاتب سينمائى مرموق قائلا: هذه هى السينما التى علينا تقديمها؟!. قلت له: لو تقدمت بهذا السيناريو للرقابة لا تتعجب، لو اعترض أحد الرقباء قائلًا: (الكلب يفسد الوضوء)، وطالب بمنع التصوير!.