هل لا تزال القضية الفلسطينية حاضرة فى ضمير العالم رغم تعدد وتراكم الأحداث؟.. السؤال الأهم: هل لا يزال كل الفلسطينيين يتذكرون التاريخ والجغرافيا؟!.. لم ولن يتجاوزوا أبدًا تلك الصفحة التى تؤكد أن هذه الأرض عاشت عليها دولة فلسطين، التى لم تفرّق يومًا فى تعاملها بين الأديان الثلاثة: الإسلام والمسيحية واليهودية.
هذه المرة نحن بصدد فيلم فلسطينى الهوى والهوية، ولا يمكن لأحد التشكيك فى شرعيته وانتمائه لفلسطين، رغم أن الأحداث الدرامية تجرى فى مدينة (حيفا)، وتم تصوير جزء كبير من الفيلم فى هذه المدينة التاريخية المطلة على البحر المتوسط، التى تعد ثالث أكبر مدن فلسطين من حيث الكثافة السكانية.
العرب يشكلون حاليًا الأقلية العددية بعد التهجير القصرى عام 48، لدينا 25 فى المائة من السكان عربًا.. الدلالة ليست فى العدد القابل للزيادة كنسبة مئوية ولكن هناك إرادة مؤكدة للحفاظ على الهوية والتحدث باللغة العربية، وهو ما يشير إليه الفيلم صراحة.
شريط (حمى البحر المتوسط) يشارك فى قسم (نظرة ما)، الاسم يشير إلى مرض وراثى أصيب به ابن بطل الفيلم، ومن أشهر من عانوا هذا المرض عازف الجيتار عمر خورشيد. بطل الفيلم كاتب محبط يعيش حالة اكتئاب، لأنه لم يحقق ذاته، يصاب ابنه بهذا المرض الذى لا علاج له حتى الآن، وفى الحوار مع الطبيبة الإسرائيلية نكتشف حقيقة الصراع عندما يصر الكاتب على أن ينطق اسم حيفا باللهجة العربية.
كما أنه عندما تسأله عن وطنه يقول فلسطين، تخبره أنه لا يوجد فى الجغرافيا ولا على الخريطة مكان اسمه فلسطين ولكن إسرائيل، ويصر على أنها فلسطين.. وتسأله عن ديانته فلا يقول مسلمًا أو مسيحيًا أو يهوديًا، ولكن ديانته (فلسطينى) أيضا.. الأداء بنعومة شديدة يبتعد عن الخطابية والمباشرة، وهو خيط رفيع حرصت عليه المخرجة مها الحاج، لتصل الرسالة أقل صخبًا وأكثر عمقًا وتأثيرًا.
الفيلم سياسيًا ينحاز للوطن، وهو من الناحية القانونية يحمل الهوية الفلسطينية، ورفضت المخرجة أن يتم تمويله على أى نحو من إسرائيل.
إنها، مع الأسف، حكاية تتكرر عندما يعلن مهرجان عن هوية فيلم فى الأوراق الرسمية، مشيرا إلى أنه إسرائيلى، بينما كل التفاصيل تؤكد أنه فلسطينى.
فى العام الماضى، شاهدنا احتجاج عدد من الفنانين الفلسطينيين على فيلم (فليكن صباحًا)، لأنه فلسطينى فى كل تفاصيله، وقرروا مقاطعة مهرجان (كان) احتجاجا على تقديمه كفيلم إسرائيلى.. إدارة المهرجان تطبق القاعدة المعمول بها فى العالم كله، وهى أن جنسية الفيلم تنسب إلى جهة الإنتاج، هذا الأمر كثيرا ما تكرر فى أكثر من مهرجان مثل فينسيا وبرلين وغيرهما، ومن أشهر الأفلام التى تعرضت لهذا التناقض فيلم (فيلا توما) عندما احتجت المخرجة سها عراف فى مهرجان (فينسيا) - قبل 8 سنوات - مطالبة بأن يحمل الفيلم الهوية الفلسطينية، فقالت وزيرة الثقافة الإسرائيلية وقتها: عليها إذن أن ترد لنا ميزانية الفيلم- وأشارت إلى الرقم.
لم تفلح أى محاولة لعرض (توما) فى أى مهرجان مصرى، بسبب أن هناك تمويلا إسرائيليا، رغم الانحياز الفكرى لفلسطين.
لا يكفى القضية، ولا لغة الحوار، ولا حتى اسم الكاتب أو المخرج.. ولكن الإنتاج. وعندما يساهم صندوق دعم السينما الإسرائيلى فى أى عمل فنى مهما كانت نسبة المشاركة لا نستطيع سوى أن نعتبره ممثلا لجهة الإنتاج، وفى العادة تتحفظ المهرجانات العربية على عرضه.
لم ينجح غضب المخرجين العرب الفلسطينيين ولا الممثلين فى تغيير القاعدة، وكثيرا ما أستمع إلى المخرج الفلسطينى وهو يقول- أتحدث عمن يعيشون داخل الخط الأخضر من نطلق عليهم (عرب فلسطين)- يؤكد المخرج أنه يحصل على تمويل من صندوق الفيلم الإسرائيلى لأنه مواطن ويدفع الضرائب ومن حقه ذلك، ولكننا لا نعترف أبدا بأنه فيلم فلسطينى، ولهذا كان ولا يزال هناك رفض عربى لمشاركة أى فيلم به أى نسبة من هذا التمويل.. وهكذا أصرت على الجانب الآخر مها الحاج على أن يحمل فيلمها الجنسية العربية فى كل تفاصيله، بدايةً من الإنتاج.
مها قدمت الشخصيات العربية وكأنهم يعيشون فى (جيتو) عربى داخل حيفا، الشخصيات التى نتعامل معها تقريبا كلها عربية، ودائرة الاحتكاك لا تتجاوز العرب.
الكاتب المحبط يقرر التخلص من حياته لأنه لم يحقق ذاته، بينما جاره الفلسطينى، أحد الذين يعيشون على السرقة والنهب والبلطجة، لا يدرى كيف يسدد ديونه، يطلب منه بطل الفيلم أن يعقد معه صفقة يتقاضى أجرا مقابل أن يقتل شخصًا، وبعد مفاوضات يكتشف أن الجار هو المطلوب فى هذه الصفقة، وبدلا من أن يطلق الرصاصة على الكاتب يوجهها إلى نفسه يعتبرها بمثابة موت رحيم.
وينتهى الفيلم بالمشهد الأخير عندما يأتى الجار الجديد الفلسطينى أيضا ونكتشف أنه طبيب تخدير. الحديث عن القتل الرحيم الممنوع فى عدد من الدول، وبينها قطعًا عالمنا العربى، هو إحدى مفردات الفيلم.
سؤال يتردد أثناء مشاهدة الفيلم: أين المجتمع الإسرائيلى؟، لماذا تعمدت المخرجة إخفاءه وكأنه لم يكن، بينما الخيط العميق فى الفيلم هو البحث عن إجابة قاطعة: هل الإنسان الفلسطينى لا يزال يحلم بفلسطين؟.
الحوار بين الكاتب والمحتال يكشف هذا الصراع الذى من الواضح أن له مردوده الواقعى، الكاتب بحكم تكوينه يعتز بوطنه التاريخى ولم يفقد بعد الأمل، بينما جاره يقول إنه يتعامل بواقعية وعليه أن يطوى الصفحة.
مها الحاج تترك دائمًا فى أحداث الفيلم أقواسا مفتوحة لمن يريد الإضافة، فهى تدرك أن مثل هذه الأسئلة قد تدفع البعض للإجابة أو- وهو أضعف الإيمان- للتفكير.
انحياز مها واضح على المستويين الفنى والسياسى.. مها تحرص على أن ترفع اسم وطنها فلسطين فى (كان)، ولا تزال تحلم بفلسطين التاريخية ونحن أيضا نشاركها الحلم!!.