بقلم - طارق الشناوي
كان الموسيقار كمال الطويل يقول إن ذاكرة الموسيقار عبد الوهاب مثل «النشافة» - وهي أداة كانت تستخدم في الماضي بعد الكتابة بالريشة من أجل تثبيت الكلمات على الورق - وهو ما يعني أن تحتفظ ببعض بقايا الحبر. ما كان يرمي إليه الطويل أن هناك شيئاً من موسيقى الآخرين تتبقى في ذاكرة عبد الوهاب، يستدعيها عند الضرورة.
هل تلك بالضبط هي الحقيقة أم أن هناك أشياء أخرى؟ إنه «موسيقار الأجيال» اللقب الذي صار لصيقاً به، وهو ما يعني عبوره من جيل إلى جيل، متصدراً الصف، وهكذا تتابع في حياة عبد الوهاب ملحنون من أصحاب المواهب الرفيعة مثل محمود الشريف ومحمد فوزي ومحمد الموجي وكمال الطويل وبليغ حمدي وهاني شنودة وغيرهم، استوعب عبد الوهاب موسيقى كل هؤلاء، كما أنه أنصت لما يردده الناس في الشارع، واستمع بإمعان إلى أغاني أحمد عدوية التي احتلت القمة الرقمية نهاية الستينات، إلا أنه ظل محتفظاً ببصمته الوهابية. عندما تستمع إلى موسيقاه تكتشف أنه الأكثر عصرياً، وآخر ألحانه «أسألك الرحيلا» شعر نزار قباني وغناء نجاة ستجد فيه نبض التسعينات، لديه قدرة فائقة على هضم ما يجري في الزمن، يمارس عملياً مقولة أستاذه أمير الشعراء أحمد شوقي «كن كالنحل يأخذ من رحيق كل الزهور ليعطي عسلاً شهياً».
شيء من هذا من الممكن أن تجده في بقاء عادل إمام أربعة عقود من الزمان على القمة الرقمية، فتح مهرجان الإسكندرية السينمائي - الذي يسدل ستائره مساء اليوم - الباب لمناقشة السينما الكوميدية، بعد أن احتل عادل إمام القمة بنحو 18 شريطاً سينمائياً، بين أفضل 100 فيلم كوميدي في تاريخ السينما، ما منح عادل كل هذه السنوات من التألق أنه يمتلك دائماً عقلاً يقظاً، يتابع الخريطة الفنية والإيرادات بشغف، ليهضم كل المفردات الجديدة.
عادل لم يهاجم أبداً من جاءوا بعده، مثلما كان يفعل بعض المخرجين، الذين كانوا يصفون الجيل التالي لهم بأنهم مخرجو «الصراصير»، لأنهم يقدمون أفلاماً بها فقر وعشوائيات.
يعتبر عام 1997 نقطة فارقة في مسيرة عادل إمام عندما وجد أن فيلم «إسماعيلية رايح جاي» يحقق 15 مليون جنيه في شباك التذاكر، بينما عادل كان سقف إيراداته وقتها لا يتجاوز نصف هذا الرقم. حل اسم محمد هنيدي الرابع في «تترات» هذا الفيلم، سبقه كل من محمد فؤاد وحنان ترك وخالد النبوي، كان هناك إحساس لدى شركات الإنتاج أن الورقة الرابحة هو هنيدي.
وارتفع الرقم في فيلم هنيدي الثاني «صعيدي في الجامعة الأميركية» متجاوزاً 28 مليون جنيه، وهذا يعني أن جمهوراً جديداً دخل السينما لأول مرة بعد أن تغيرت أبجدية الكوميديا، عادل بعدها غيّر تماماً البوصلة.
توجه نهاية التسعينات إلى الكاتب يوسف معاطي القادر على قراءة مفردات الجيل الذي أطلقوا عليه «الرِوِش»، وأصبح هو الأكثر حضوراً على خريطته، سواء في السينما أو بعدها في المسلسلات التلفزيونية منذ «الواد محروس بتاع الوزير»، فاحتفظ بالقمة الرقمية، بينما تراجع محمد هنيدي، واحتل محمد سعد «اللمبي» المركز الأول عام 2002، ثم تراجع سعد ليحتل القمة أحمد حلمي «كده رضا» 2007، ورغم ذلك ظل لعادل مكانته، شيء من هذا تجده في اختيارات عمرو دياب الأخيرة لأغانيه التي تحمل شيئاً من عفوية وبساطة أغاني «المهرجانات» سواء في الكلمة أو اللحن، إلا أنه يقدمها بأسلوب عمرو دياب.
أغلب كبار المبدعين الذين ظلوا متربعين على القمة عقوداً متعددة، ستكتشف أنهم لا يتعالون أبداً على الجمهور، بل يهضمون بسرعة «الشفرة» الجديدة، يقدمونها بأسلوبهم وكأنها «النشافة» التي أشار إليها في البداية الموسيقار كمال الطويل!!