بقلم - طارق الشناوي
ما هو «ترمومتر» الرقابة؟، لا توجد بالطبع معايير محددة أو ثابتة، ولهذا تتعدد الانتقادات أحيانًا بالتشدد وأخرى بالتسيب، تتعنت الرقابة مع مخرج وتصرح بنفس المشهد لآخر، الرؤية الشخصية للرقيب لا تتحرك بمعزل عن قوة أراها تلعب دور البطولة، إنه المجتمع، يرسل المجتمع دائمًا إشارات مباشرة للأجهزة الرقابية وتحديدا فيما يتعلق بهامش السماح فى الجنس والعرى، صورة الشارع المصرى فى الخمسينيات تختلف تمامًا عن الشارع منذ التسعينيات، فى الماضى كانت المرأة ترتدى الجيب، ثم المينى جيب، ووصلنا إلى الميكروجيب، ولم يكن هناك من يقف ضد ذلك أو يستهجن ولو حتى بقلبه ذلك، كان عدد من كبار الشيوخ مثل «محمد حسن الباقورى» يبيح أن تضع المرأة طلاء الأظافر ولا يجد فى ذلك ما يفسد الوضوء، الأغانى تتحدث عن الحب بلا تحفظ.. «إحسان عبد القدوس» فى الإذاعة المصرية يقدم حديثًا يوميًا ينهيه قائلًا (تصبحوا على حب)، ملحوظة بناء على تدخل مباشر من جمال عبد الناصر أحالها إلى (تصبحوا على محبة)، ولكن هذه حكاية أخرى، مجلة «صباح الخير» لسان حال الشباب المتحرر.. راجعوا مثلًا حوارا مع الكاتب الكبير «نجيب محفوظ» أجرى معه نهاية الخمسينيات، أثناء توليه الرقابة على المصنفات الفنية، سألوه عن القبلة المباحة سينمائيًا؟، قال لهم أوافق على شرط ألا تتجاوز العنق؟! ورغم ذلك فإن العديد من القبلات التى صرحت بها الرقابة فى عهد «نجيب محفوظ» تجاوزت العنق، سألوه مرة أخرى ماذا تفعل لو كنت فى الشارع ورأيت فتى وفتاة يتبادلان القبلات.. قال لهم (أبتسم وأنظر بعيدًا وأقول يا رب عقبالى)!!.
هكذا كان المجتمع لديه سماحة، ولم نقرأ مثلًا من يتهم «نجيب محفوظ» بالمجون لأنه يقول وهو فى الخمسين من عمره (يا رب عقبالى)، إنه دائمًا المجتمع الذى يلعب دورًا محوريًا فى السماح للأعمال الفنية، فى الشارع تجد أن الحجاب هو السائد وعلى الحوائط تنتشر شعارات (يا أختى المؤمنة الحجاب يساوى الجنة) ولا تجرؤ أى فتاة أن ترتدى فى الشارع «جيب» أعلى من الركبة لأنها سوف تتعرض لاستهجان، بل إن كثيرا من الفتيات غير المحجبات تجدن من يتدخل فى حياتهن الشخصية ويطالبهن بتطفل بضرورة ارتدائه، ولا تنسى واقعة (الضرب بالشبشب) فى محطة المترو، نستعيد أيضًا قبل بضعة أشهر حكاية الطالبة الجامعية التى ارتدت الفستان، وبعد ذلك أجبروها على البنطلون، المجتمع الذى وافق على مشهد اغتصاب «سعاد حسنى» فى «الكرنك» قبل نحو 47 عامًا، هو نفسه المجتمع الذى يسأل الرقيب الآن لماذا وافق على مشهد به خمور ونساء فى مسلسلى (مشوار) و(العائدون).
دور الرقابة ألا تستسلم لكل ما يريده قطاع عالى الصوت من المجتمع، خاصة أن إعلان التحفظ والدفاع عنه يجد ترحيبًا عند قطاع من الجمهور، وبالطبع ليس الجنس أو العرى هو الإبداع، إلا أن التعسف فى مصادرتهما يحيل الدراما إلى شاشات معقمة!!.
النجوم صاروا يزايدون فى نفس الاتجاه، وهذا بدوره أيضًا يصب لصالحهم لأن الجمهور يحكم على الفنان أخلاقيًا ويختلط عليه الأمر بين سلوك الفنان الشخصى ودور درامى يؤديه على الشاشة.
لدينا نجوم محجبون ينافسون النجمات المحجبات، والرقابة بطبيعة تكوينها تميل للتشدد، خوفًا من الدخول فى معركة يصل لهيبها إلى مجلس الشعب.
الرقيب الحائر بين تلك المتناقضات، اكتشف أن الحل الوحيد أمامه أن يرسل للأجهزة بالدولة ويسترشد برأيها ويحصل منها أولًا على الضوء الأخضر، وكأن (سيدة الشبشب) انتقلت من مقرها الدائم فى محطة المترو، إلى مكتب الرقابة!!.