بقلم - طارق الشناوي
قال لى الإذاعى الكبير الراحل «جلال معوض» إن الرئيس «جمال عبدالناصر» كان يضج من كثرة الأغانى التي يتكرر فيها اسمه، ولهذا في أحد الاحتفالات الوطنية- لا أتذكر تحديدًا إذا كان السد العالى أم الثورة- كانت التنبيهات صارمة على الجميع وهى إياكم والغناء باسم «عبدالناصر».. التزمت «نجاة» و«محرم فؤاد» و«شادية»، ثم- وآه من «ثم»- جاء دور المطرب الكبير «محمد الكحلاوى» الذي كان كعادته يردد عددا من أغانيه الدينية والبدوية وفجأة غير في كلمات إحدى أغنياته وأضاف اسم «عبدالناصر»، ومن بعدها فقد «جلال معوض» السيطرة وانطلق الجميع يغنون باسم الزعيم!!. لا أتشكك بالتأكيد في رواية الأستاذ الإذاعى الكبير، ولكنى فقط أتوقف أمام رغبة الزعيم في الغناء باسمه، لا أتصور أن «عبدالناصر» كانت لديه اعتراضات، بل المؤكد أنه كان سعيدًا بما يجرى، وجاءت ذكرى الثورة أمس لأستعيد عددا من أغانيه عبر إذاعة (الأغانى)، ووجدت نفسى مثلا أستمع إلى «أم كلثوم» وهى تغنى على مدى ساعة كاملة (حققنا الآمال/ برياستك يا جمال/ بعد الصبر ما طال).. تعيد وتزيد هذه الكلمات الركيكة، ونكتشف أن الذي كتبها هو زجال مصر الأول «بيرم التونسى» وتلحين عملاق الموسيقى الشرقية «رياض السنباطى»، أو عندما يقول «عبدالفتاح مصطفى» وهو أحد كبار شعراء الأغنية (الزعيم والثورة وفوا بالعهود/ ولسه دور الشعب يوفى بالوعود)، إنه يبرئ ساحة رجل واحد هو الزعيم ويدين شعبا بأكمله، بالتأكيد ليس كل الأغنيات التي ردد فيها الشعراء اسم «عبدالناصر» كانت مجرد هراء وخوف من السلطة.. لا يمكن أن أصدق مثلًا أن أغنية (إحنا الشعب إحنا الشعب اخترناك من قلب الشعب) لصلاح جاهين وكمال الطويل، ولا أغنية «يا جمال يا حبيب الملايين» لإسماعيل الحبروك والطويل، ولا «أحمد شفيق كامل» وهو يقول (ضربة كانت من معلم خلى الاستعمار يبلم).
لا أصدق أنها أغنيات كاذبة، لدينا بالتأكيد أغنيات عديدة عبرت بصدق عن المشاعر لم تنضج أبدا تحت نيران الخوف من «عبدالناصر».
لو عدت إلى أرشيف الإذاعة سوف تكتشف أن البعض كان يبدأ كتابة اسم (ناصر) أو (جمال) أو (أبوخالد)، ثم يبحث عن أي وزن وقافية ويملؤها بمجرد كلمات، الأهم أن الرئيس نفسه لم يعترض على هذا الإسراف، ربما في لحظة قال كفاية، حدث هذا مرة مثلا، ولكن الرئيس أنعشته هذه الأغانى، التي تعنى أن الكل يذوب في واحد، ونكتشف مع الزمن أن الذي يدفع الثمن بالتأكيد هو الكل!!. عندما سألت الموسيقار الكبير «كمال الطويل» وهو على الأقل صاحب 90% مما ردده «عبدالحليم حافظ» من أغنيات وطنية واكبت الثورة، أجابنى بأنه لم يشعر ولو لحظة واحدة أنه يلحن لجمال عبدالناصر ولكن للوطن.. انتهت كلمات «الطويل» إلا أننى أضيف أن هناك من غنى بقناعة وهناك من غنى لمسايرة الزفة، وما تبقى فقط هو تلك الأغنيات التي قدمت بإحساس، وبالتأكيد تحتل أغنيات «الطويل» و«جاهين» و«حليم» النصيب الأكبر من الأغانى التي حركها الضمير الوطنى. هل ظل الأستاذ كمال الطويل على قناعته بشفافية التجربة الناصرية، ولم يندم على أنه روج من حيث لا يدرى للعديد من الممارسات القمعية؟. استطيع أن أقول إنه لم يتشكك لحظة في صدق عبدالناصر، إلا أنه أدرك قبل هزيمة 67 أن مراكز القوى صوتها أعلى من عبدالناصر، والدليل أن الفريق شمس بدران الرجل العسكرى الثانى بعد المشير عبدالحكيم عامر، منع الطويل من السفر حتى يلحن لعبدالحليم أغنية (صورة) في عيد الثورة. كما أن عبدالناصر سأل الطويل أمام رجال الدولة بعد أحد الاحتفالات «هل حصلت يا كمال على 5 آلاف جنيه قيمة المكافأة عن اختيار (والله زمان يا سلاحى) نشيدنا الوطنى؟»، أجابه الطويل أبدا، طلب عبدالناصر صرف المكافأة، ولم يتم التنفيذ حتى الآن!!.
عبدالناصر لم يكن قابضا على السلطة، على عكس ما نعتقد، والعديد من الممارسات القمعية لم يكن على دراية بها، على عكس ما نعتقد، إلا أن كل هذا يدخل تحت طائلة «عذر أقبح من ذنب»، على عكس ما نعتقد!!.