بقلم - طارق الشناوي
روبوت صار (مايسترو) يقود أوركسترا متكاملًا من 60 عازفًا بشريًا، حدثت، ومن الممكن أن يقود أيضًا فرقة أكبر من العازفين الاصطناعيين، كل شىء بالبرمجة المسبقة ممكن.
على شرط الالتزام بالنوتة الموسيقية، الأعمال الموسيقية الغربية بطبيعة التركيبة العلمية مقننة بكل التفاصيل، وتحتمل التنفيذ بدقة بدون أى احتمال للخطأ، ستظل خالية من اللمسة الخاصة، ثم مع بداية التصفيق كيف تستجيب الفرقة لزمن وإحساس التصفيق، الذى لا يمكن التنبؤ المسبق بتحديد درجته؟، وإذا امتد تصفيق الجمهور أكثر أو أقل مما هو متوقع، كيف يتم التعامل مع الموقف؟.
هامش الارتجال والإبداع اللحظى سيظل عصيًا على الوصول إلى (شفرته) الخاصة، فهو غير خاضع لمعيار ثابت، ولا يمكن تقنينه.
موسيقانا الشرقية من المستحيل خضوعها لتلك التقنية العلمية، نعم أمام العازف فى العادة (نوتة موسيقية) يلتزم بها، إلا أن الإبداع يكمن أساسًا فى تلك المساحة التى يخرج فيها العزف على الالتزام الحرفى بالنوتة.
تتذكرون عازف الناى الأسمر سيد سالم، فى أغنية أم كلثوم (بعيد عنك)؟، فاجأ العازف الموهوب أم كلثوم على المسرح بأنه يقدم (صولو) الناى بأسلوب آخر، غير ما تعودت عليه الفرقة، رغم أن فرقة أم كلثوم تجرى عشرات من البروفات.
الناس فى الصالة صفقت استحسانًا، وأم كلثوم قالت بدهشة مشوبة بإعجاب (إيه ده؟)، وأشارت لقائد الفرقة عبده صالح (عازف القانون)، بإعادة المقطع، ولم يلتزم سيد سالم بالإضافة الأخيرة، بل أضاف لمحة أخرى على الإضافة.
هل الفن كله ارتجال؟، الإجابة هى قطعًا لا، توجد قواعد عامة تشكل فى أى عمل فنى نحو 90 فى المائة من بناءه، وتظل لدينا 10 فى المائة هى تلك التى تمنحه مذاق وخصوصية. إنها بصمة (الأسطى)، مثلما يحدث فى ورش الكتابة الدرامية، تابع إنتاج ورشة تقودها مريم نعوم أو تامر محسن أو تامر حبيب، وقارنه بالورش الدرامية الأخرى، ستكتشف أن هناك بصمة خاصة للأسطى، هناك جزء حرفى للكتابة الدرامية، وهو أشبه بالبنية التحتية التى تلقى فيها الخرسانة المسلحة، ويأتى بعد ذلك الأسطى لتقديم اللمحات التى تمنح الجمال والخصوصية للبناء الفنى كله.
قد تقرأ فى بعض الجرائد الغربية مقالًا بتوقيع ثلاثة أو أربعة من الكتاب، تكتشف أن واحدًا فقط منها هو الذى يصيغ المقال، بينما الثلاثة الآخرون كل منهم أضاف شيئًا متعلقًا بالمعلومات.
قد تتشابه فى هذه الحالة المقالات، لو انتزعت منها صاحب اللمسة السحرية الأخيرة.
من السهل تغذية الآلة بالمفردات الموسيقية مثلًا لمحمد عبد الوهاب، ثم بعد ذلك سيخرج لحنًا يشبه موسيقى محمد عبد الوهاب، ولكن تنقصه تلك اللمسة السحرية الوهابية. يقولون فى تفسير الإبداع (الآلهة تنعم علينا بمطلع القصيدة وعلينا أن نُكمل الباقى).
هناك لمحة إبداعية تأتى كومضة، وعليك أن تقبض عليها، ثم تكمل بعدها الباقى، إنه الاجتهاد، يمكن أن تلعب الآلة هذا الدور، إلا أن الوجدان سيظل عصيًا على التكرار، ولا بديل اصطناعى له.
من الممكن أن نخترع (مايسترو) يقود أوركسترا متكاملًا، ولكن من المستحيل أن تعثر على بديل لعازف الناى (سيد سالم