بقلم: طارق الشناوي
في مسرحية «يوليوس قيصر» يقول وليم شكسبير: «احذر منه، إنه لا يحب الموسيقى». نعم، احذر من البشر الذين لا يتعايشون مع الفن، والموسيقى تحديداً لأنها تقع -كما قال الفيلسوف شوبنهور- على قمة الفنون. من يتعانق وجدانه مع الأنغام، وتحركه الإيقاعات وتسكن روحه، فهو إذن الإنسان. ما دون ذلك يظل شروعاً في الوصول إلى معنى الإنسان!
عشنا في الرياض الأربعاء الماضي ليلة ممتعة، مبهجة، ارتدَت من فرط جمالها رداء «قوس قزح» بألوان الطيف السبعة، أقامتها هيئة الترفيه، واستطاع رئيس الهيئة المستشار تركي آل الشيخ أن يجمع أغلب وأهم مطربي عالمنا العربي، ليعيشوا ونعيش معهم، ليلة كلها موسيقى وغناء وطرب، تحت مظلة المطرب والملحن الكبير طلال مداح، رائد الأغنية الخليجية، الذي لعب منذ الستينات الدور الأهم والأكبر في الانتقال بالأغنية السعودية خارج حدود المملكة. لا يزال جميع مطربي الخليج العربي، وخارج الخليج، يعلنون في كل مناسبة، وأيضاً حتى بعيداً عن أي مناسبة، تلك الحقيقة التي لا يمكن إغفالها؛ لأنها ببساطة تمتلك الوثيقة.
إنه الرائد الذي واجه وتغلب على كثير من التحديات الاجتماعية والثقافية، ليقول للعالم إن هناك أنغاماً وإيقاعات خاصة تنبت على تلك الأرض، مثل أشجار النخيل.
تعددت الألقاب التي حظي بها طلال مداح، مثل «صوت الأرض»، و«قيثارة الشرق»، و«زرياب». منح ألحانه للجميع، وليس فقط لمطربي ومطربات الخليج. غنت له وردة، وسميرة سعيد، وفايزة أحمد، وذكرى، ونجاح سلام، وسميرة توفيق، وغيرهن. وحظي بحب وتقدير خاص من الموسيقار محمد عبد الوهاب، وكان بينهما مشروع لأغنية، لم يمهل القدر موسيقار الأجيال الزمن لإكمالها. وكثيراً ما كان الموسيقار الكبير يشيد بصوته وألحانه وأسلوبه الخاص في التعبير.
الحفل تعددت ألوانه وامتدت فقراته، برؤية إخراجية ممتعة، وكأنها «سيمفونية» متكاملة تتحرك وفق نظام تصاعدي (كريشندو). عدد كبير من المطربين شكَّلوا ثنائيات على المسرح لتقديم أغانيه، مما منحها مذاقاً خاصاً.
هل كانوا يكرمون طلال مداح أم أن طلال مداح هو الذي كان يكرمهم؟ محمد عبده أجاب عن هذا السؤال قائلاً: «طلال هو الذي كرَّمنا».
أقيم الحفل على «مسرح محمد عبده»، وكانت لحظة التتويج هي تلك التي صعدت فيها أسرة طلال مداح؛ أبناؤه وعدد من الأحفاد، على المسرح، لاستلام التكريم. واعتلى خشبة المسرح تركي آل الشيخ، والسفير المصري في الرياض.
طلال أمضى جزءاً كبيراً من حياته في مصر، وعندما سألته الإعلامية نشوى الرويني في لقاء منذ ربع قرن، عبر «إم بي سي»، عن البلد الذي تطيب له الإقامة فيه، أجابها: «مصر».
تم إطلاق اسم «صوت الأرض» على أكبر استوديو في الشرق الأوسط، تم افتتاحه مؤخراً بالرياض، وهذا هو التكريم الذي يليق بمطربنا الكبير.
التقيت طلال مداح مرة واحدة، نهاية الثمانينات. كتلة من التواضع تتحرك على قدمين؛ كان متسامحاً في علاقته بكل الأنغام والأغنيات وتذوقه لها. لاحظت أنه لم يغلق باب الشقة، فسألته، فأجابني: «بيتي مفتوح للجميع». كان قد بدأ يتردد وقتها تعبير «الأغنية الشبابية»؛ لم يرفض أبداً التجديد، ولم يناصب هؤلاء المطربين العداء، كما يفعل الآن بعض الكبار. تصالح مع كل الاتجاهات الموسيقية، حتى تلك التي تعارضت مع أفكاره وذوقه.
ما في قلبه على لسانه، ليست لديه حسابات أخرى، غير ما تمليه عليه مشاعره، ولا يخفي شيئاً أو يُجمل شيئاً.
في نهاية الحفل، شاهدنا طلال بتقنية «الهولوغرام» في «ديو» جمعه مع محمد عبده، ليصبح هذا هو مسك الختام.
الفنان الصادق لا تنتهي صفحته في كتاب الحياة عندما يصل للشاطئ الآخر. طلال غادرنا قبل نحو 23 عاماً، إلا أنه في تلك الليلة عاد متألقاً ومتدفقاً. استمعنا إلى ألحانه تخترق حاجز الزمن، وكأن في موته حياة. عاد من السماء إلى الأرض ليصبح «صوت الأرض» الذي لا يعرف أبداً الغياب!