لم أقل لها تلك الحكاية من قبل، رغم أننا التقينا كثيرًا، وبيننا صداقة ممتدة، الحكاية أن أسعد مكالمة كنت أتلقاها، منذ نهاية الثمانينيات وطوال عقد التسعينيات ومطلع الألفية الثالثة، هى تلك التى كانت تأتينى منها أو من مخرج البرنامج، تطلب منى أن أكون ضيفًا فى (نادى السينما) للتعقيب على الفيلم، المعروض يوم السبت، فى أشهر وأهم ظاهرة ثقافية عرفها التليفزيون المصرى، طوال تاريخه الذى يربو على الستين عامًا.
ترسل لى درية شريط فيديو، كنا فى زمن (الشريط)، قبل (الأسطوانة)، أشاهده كحد أدنى مثنى، وقد يصل الأمر إلى ثلاث ورباع.
البرنامج يستضيف عادة أساطين مهنة السينما، مخرجين بحجم سمير سيف وعلى بدرخان وخيرى بشارة وداوود عبدالسيد ومحمد خان، ونقادًا بقامات د. رفيق الصبان ومصطفى درويش وسامى السلامونى ورؤوف توفيق وسمير فريد وعلى أبوشادى وكمال رمزى وخيرية البشلاوى وماجدة موريس وغيرهم، وأشعر أن علىَّ أن أشب حتى أقترب، ولو قليلًا، من تلك القامات.
كنت أعيش كل التفاصيل، بينما نتناقش قبل التسجيل فى الخطوط العامة فقط، ولا نتطرق إلى التفاصيل، وذلك حتى نحتفظ بسخونة الحوار وطزاجة التعبير عند الحديث أمام الكاميرا، وهو درس تعلمته منها، حيث إن الضيف يجب ألا يقول رأيه مرتين لأنه فى الثانية سيبدو وكأنه يكرر الكلمات، بلا حياة أو انفعال حقيقى، وهو ما التزمت به فى كل لقاءاتى بعد ذلك.
علاقتى بالبرنامج كمشاهد بدأت منذ مطلع الثمانينيات، أثناء دراستى بمعهد السينما، كان الفنان الكبير، الأستاذ محمود مرسى، يحرص، وهو يدرس لنا مادة (حرفية الإخراج)، على أن يصبح موعد المحاضرة صباح الأحد حتى يضمن أن كل الطلبة شاهدوا الفيلم مساء السبت، ويُعيد من وجهة نظره شرح التكنيك والجماليات، وهو موقن أن ذاكرة الطلبة لا تزال تحتفظ باللقطات، وهو ما يمنح المحاضرة حيوية وتدفقًا.
كان هذا البرنامج بمثابة المادة العلمية الطازجة والملموسة لتلك المحاضرة، التى أعتبرها الأكثر أهمية، كان الأستاذ يتمتع بتلك القدرات الخاصة، وهى موهبة إيصال المعلومة بأقل كلمات، المحاضرة كاملة العدد، بل يحضرها طلاب السنوات الأخرى من مختلف التخصصات، وذلك من فرط براعة الأستاذ فى توصيل المعلومات، بينما باءت كل محاولات أسرة البرنامج بالفشل لإقناعه بالحلول ضيفًا، بقدر تقديره للمذيعة والبرنامج، إلا أنه كان يضع حول نفسه سورًا عاليًا ممنوعًا اختراقه إعلاميًّا، وتلك حكاية أخرى.
من فرط نجاح البرنامج الجماهيرى فإن التليفزيون المصرى، الذى عادة ما يغير الخريطة البرامجية فى شهر رمضان، ليفسح المجال أمام البرامج الخفيفة، إلا أن (نادى السينما) ظل هو الاستثناء محتفظًا بميعاده الثابت، والناس على العهد تنتظره فى موعده، حقق (نادى السينما) المعادلة الصعبة، حيث جمع بين الشعبية والجدية، وكأنه المعادل الموضوعى لدرية شرف الدين، التى مزجت بين (الحسنيين) النجومية والاحترام.
دعونا نفكر معًا، مَن الإعلامية التى من الممكن أن تصبح (ترمومترًا) نقيس به درجة الحرفية والاحتراف؟. قطعًا فى مثل هذه الأمور لا توجد إجابة مطلقة شاملة مانعة، ولكن لدينا ما يمكن أن نصفه بهذا (الترمومتر)، الزئبقى بطبيعته، رغم أن الزمن يلعب دوره فى تغيير المقاييس لأن قانون الإعلام الأرضى ليس هو بالضبط قانون الإعلام الفضائى، كما أن توغل (السوشيال ميديا) غيّر الكثير من المسلمات، والجمهور اختلفت مشاربه، وتعددت الأمزجة، مع دخول المحمول وتغلغله فى كل شؤون الحياة.
كل ما ذكرت آنفًا يجعل التسليم بتوصيف المذيع (الترمومتر) مستحيل التحقق على أرض الواقع، ورغم ذلك فأنا أستثنى درية شرف الدين لأنها فى دائرة خاصة جدًّا، جمعت بين قارئة نشرة الأخبار المحايدة التى ينتظر الناس إطلالتها، وبين مقدمة وأيضًا مُعدة برنامج ثقافى، لها وجهة نظر فى نقاشها مع الضيف، تطرحها، حتى لو لم تتوافق الآراء، ويظل أسلوب النقاش الناعم أحد أهم أسباب تفوق درية والعنوان الأكثر وضوحًا لمشوارها الممتد حتى الآن من خلال (ماسبيرو)، حتى برنامجها الجديد (حديث العرب من مصر)، حيث تتناول القضايا المُلِحّة مصريًّا وعربيًّا، وكعادتها تبذل الجهد الأكبر فى الدراسة والتحليل، قبل أن تبدأ التسجيل.
مشوار درية شرف الدين ممتد منذ منتصف السبعينيات، ولكن يظل (المانشيت) بلغة الصحافة هو (نادى السينما)، الذى كان فى آن واحد عنوانًا للثقافة الرفيعة والشعبية. جمهور هذا البرنامج يتطلب حدًّا أدنى القدرة على القراءة باللغة العربية لمتابعة ترجمة حوار الفيلم، ورغم ذلك كثيرًا ما كنت أجد نفسى فى حوار ممتع مع الراحل «عم سيد»، بائع (الفول الأخضر)، وهو يناقشنى فى فيلم عُرض بالبرنامج، قبل أسبوع، رغم أنه لا يقرأ ولا يكتب، إلا أنه استوعب الأحداث تمامًا، بل كان يشير إلى أبعاد أخرى، ربما لم يقصدها صُناعه، وغابت حتى عن كاتب هذه السطور.
فى زمن ما قبل الفضائيات، لم تكن الأفلام الأجنبية متوفرة بكثرة، وهكذا جاء (نادى السينما) فى توقيته تمامًا، حيث يشرح الأستاذ محمود مرسى عمليًّا أسلوب المخرج، وحركة الكاميرا والممثلين والجو العام وأخطاء السيناريو والتصوير والمونتاج، محاضرة شديدة المتعة والجاذبية، وكأننا بصدد الجزء الثانى من سهرة الأمس، ولكن داخل جدران أكاديمية الفنون، كانت المحاضرة، بلغة المسرح والسينما (كاملة العدد)، وهناك أيضًا مَن يجلس على درجات السلم المجاورة، وهكذا أستطيع أن أضيف قيمة أخرى لهذا البرنامج أنه لعب دورًا تثقيفيًّا، حتى لمَن عملوا بعد ذلك فى (الفن السابع)، كمبدعين أو نقاد.
درية دعمت شغفها بالسينما بالدراسة الأكاديمية، وحصلت على الدكتوراة فى الفيلم السياسى، وفى مرحلة ما أسند إليها وزير الثقافة الأسبق، الفنان فاروق حسنى، مسؤولية الرقابة على المصنفات الفنية، لم تمكث طويلًا على المقعد، اصطدمت بالكثير من المعوقات التى لم تستطع التواؤم معها، وفى النهاية طلبت إعفاءها من المنصب، ثم تولت فى مرحلة فارقة حقيبة وزارة الإعلام، ثم تم مؤخرًا إسناد مهمة رئاسة لجنة الثقافة والإعلام بمجلس النواب إليها.
وتعددت المناصب، التى صاحبتها فى مشوارها المُكلَّل دومًا بالنجاح، والذى سيظل سابقًا ولاحقًا لكل ذلك، إنها الإعلامية القديرة، التى صارت نموذجًا يُحتذى به بين المذيعات، ولا تزال تحتفظ بـ(الترمومتر). يكرمها، مساء اليوم، مهرجان أسوان بجائزة (إيزيس) للاستحقاق، هو تكريم للقيمة الإعلامية فى بلادنا، وما أشد حاجتنا هذه الأيام إلى فكر ومنهج درية شرف الدين، فى زمن ذُبحت فيه على مرأى ومسمع من الجميع الكثير من قيم الإعلام!!.