بقلم:طارق الشناوي
أمس مرت في صمت ذكرى رحيله رقم 56 مثلما مرت حياته في صمت، أتحدث عن أحد أهم عباقرة النغم كملحن وعازف، فهو الذي علم الكبار محمد عبدالوهاب ورياض السنباطى وفريد الأطرش العزف على العود. شخصية القصبجى تحمل كل المقومات الدرامية، الصورة الأخيرة وهو ممسك بالعود في فرقة أم كلثوم هي التي ستبقى في الذاكرة، رجل عجوز صابغ شعره- أقصد ما تبقى منه- باللون الأسود، كثيرا ما اعتبرتها (الست) مجالا للسخرية، ووصفتها بـ(الطباعة)، التي كانت تستخدم في الماضى لضمان وضوح التوقيع بالختم.
ملامحه تشى بإنسان مسالم ومحبط، لم تكن هذه قطعا صورته في شبابه، ولكن تذكر أن البث التليفزيونى في مصر بدأ عام 60، كان القصبجى قد تجاوز السبعين، كما أنه قبلها بأكثر من عشر سنوات كان قد توقف عن التلحين لأم كلثوم وغيرها، لم يقهره الزمن، فلقد كان سابقا للزمن، لأنه ببساطة أحد أهم عناوين صُناع ثورة التجديد في الموسيقى بعد سيد درويش، ليغير المؤشر صوب التعبير بديلا عن التطريب. وكان أيضا يميل للتجريب، وهكذا قدم رائعة (الطيور) لأسمهان، وفيلم (عايدة) لأم كلثوم بمذاق أوبرالى، نجح جماهيريا في الأولى وأخفق في الثانية، ولم تغفرها له أم كلثوم، قدم الفصل الأول في الأوبريت داخل الفيلم، بينما السنباطى عهدت إليه أم كلثوم بتلحين الفصل الثانى، لم تشهد الإيرادات لصالح (الست)، الجمهور لم يتقبل أم كلثوم في هذا النوع من الغناء.
القصبجى لم يكن فقط عاشقا بل مجنونا بحب أم كلثوم، هناك حادثة لم يتطرق لها الكاتب محفوظ عبدالرحمن في مسلسل «أم كلثوم» برغم أنها موثقة، ذكرت تفاصيلها في كتابى (أنا والعذاب وأم كلثوم). في عام 1946 عندما تقدم الموسيقار محمود الشريف إلى الشرطة وحرر محضرا ضد القصبجى لأنه شرع في قتله، والحكاية أن القصبجى قرأ (مانشيت) مصطفى أمين (خطوبة أم كلثوم ومحمود الشريف)، على صفحات جريدة (أخبار اليوم)، سألها مصطفى أمين هل ستكمل مشوارها الغنائى؟، أجابته: الأمر له وما يريد. رهنت أم كلثوم مستقبلها الفنى بإرادة محمود الشريف. الشاعر أحمد رامى استشاط غضبا واستقل الترام من منزله بمصر الجديدة وهو يرتدى البيجامة والروب متجها إلى فيلا أم كلثوم بالزمالك، ولم ينقذه سوى الكمسرى الذي نبهه إلى أنه لا يزال يرتدى الشبشب، فعاد إلى منزله كاظما غيظه، بينما القصبجى ذهب إلى فيلا أم كلثوم. وعندما علم أنها والشريف في الطابق العلوى قرر تنفيذ خطته، ولاحظت أم كلثوم أنه يخفى شيئا خلف ظهره قالت له ماذا تحمل يا (قصب)؟، وهو اسم الدلع الذي تعودت أن تناديه به، وفجأة سقط المسدس الذي أاراد به اغتيال الشريف، وتحول الأمر إلى النيابة للتحقيق، وتنازل الشريف كما قال لى في النهاية إكراما لتاريخ القصبجى وخاطر أم كلثوم، التي لم ترض أبدا أن يسجن أستاذها العاشق المجنون.
هل كانت ترفض ألحانه بعد رائعة (رق الحبيب) مما أصابه بإحباط؟، هذا هو ما كانت الصحافة خلال تلك السنوات ولا تزال حتى الآن تردده، وسألت الموسيقار كمال الطويل عن صدق المعلومة، أجابنى أن القصبجى أكد له أن أم كلثوم عرضت عليه عشرات من النصوص إلا أنه بمجرد أن يُمسك بالعود يجد غمامة سوداء تحول بينه والعثور على النغمة الساحرة، وهى حكاية تستحق التأمل، هل يموت الإبداع فجأة؟!.