بقلم - طارق الشناوي
الخيال أحلى من الحقيقة، فهو دائمًا محبوك، وغالبا أكثر طرافة، كما أننا نميل بطبعنا لتصديق الحكاية، الأكثر دلالة حتى لو كان نصيبها من الصدق معدومًا تمامًا.
إليكم هذه الواقعة، في منتصف الأربعينيات أصدر الشاعر والكاتب الصحفى الكبير مأمون الشناوى مجلة (كلمة ونص)، وتقدم للعمل صحفى شاب يطرق لأول مرة الباب اسمه محمود السعدنى، طلب منه مأمون أن يكتب بابًا يتناول الجرائم، وكان مأمون ينشر بسعادة بالغة كل هذه الأخبار التي التقطتها عين السعدنى وصاغها بقلمه الجذاب، وحققت هذه الأخبار درجة كبيرة من المصداقية عند القراء وأسهمت في زيادة أرقام توزيع المجلة. أحد المحررين على طريقة (قاسم السماوى) بدأ يتشكك، وبالفعل ذهب لكل أقسام الشرطة وحصل على تكذيب لأغلب هذه الأخبار، استدعى مأمون الشناوى الصحفى الشاب محمود السعدنى، وطلب منه إذا أراد الاستمرار في العمل فعليه أن يتحرى الدقة حتى لا تغلق أمامه كل أبواب (صاحبة الجلالة).
التزم السعدنى بأدق التفاصيل ونشر الأخبار كما حدثت بالضبط، تضاءل تدريجيًّا عدد القراء، استدعى مأمون الشناوى محمود السعدنى مجددًا، وطلب منه أن يضيف بقلمه بعض الخيال، حتى يستعيد مجددًا القراء.
من الممكن أن تضيف مقدارًا ما مقننًا من الخيال، لتصبح المعادلة المعقولة (كبشة) من الحقيقة مع (ملعقة) من الأكاذيب، لزوم تحلية (البضاعة)، إلا أننى لاحظت أن اغلب الحكايات المتداولة تغيب عنها تمامًا حتى (ملعقة) الحقيقة لتصبح فقط (كبشتين) من الكذب.
لديكم مثلًا أغنية ليلى مراد (يا رايحين للنبى الغالى) التي تسيطر هذه الأيام على المشهد، الحكاية الطريفة التي لم تحدث أبدًا، رغم أن الجميع يتناقلها، أن ليلى مراد طلبت من المسؤول عن استديو مصر منتج الفيلم السماح لها بالسفر لأداء مناسك الحج، رفضت إدارة الاستديو لارتباطها بمواعيد صارمة في التصوير، ومن ثم العرض، ولهذا قررت ليلى أن تطلب من الشاعر أبوالسعود الإبيارى أن يكتب لها في فيلم (بنت الأكابر) تلك الاغنية حتى يعوضها عن الذهاب للكعبة!.
والحكاية كما ترى طريفة جدًّا، إلا أنها تخاصم المنطق، الفيلم قائم أساسًا على سفر زكى رستم الباشا الصارم الملتزم دينيًّا، لأداء فريضة الحج، يؤدى دور جد ليلى مراد، حتى يصبح هناك مساحة من المرونة لكى تمارس حفيدته ليلى مراد حريتها، وتبدأ قصة الحب مع أنور وجدى، في غياب الجد، وفى وجود خالها الطيب سليمان نجيب.
إلا أن الناس لا ترتاح إلا للقصة الكاذبة، لأنها تملك كل مقومات الحبكة الدرامية والجذب.
حتى كتابة هذه السطور ليس لدىّ يقين هل أدت بعدها ليلى مراد الحج في الواقع أم لا، وإن كنت أميل أكثر إلى أنها لم تذهب للكعبة الشريفة، فلا يوجد في الأرشيف ما يشير إلى ذلك، أما كاتب الأغنية أبوالسعود الإبيارى، فهو يقينًا لم يؤد فريضة الحج، حيث كان يخشى السفر بحرًا وجوًّا وبرًّا، ورغم ذلك كتب أغنية عن الحج تقطر صدقا!.
وقال لى ابنه الكاتب الكبير أحمد الإبيارى إنه عندما ذهب لأداء فريضة الحج أقصد (أحمد) واكتشفت الشركة المسؤولة من خلال جواز السفر أنه ابن شاعر (يا رايحين للنبى الغالى)، أصر صاحب الشركة على إعفائه من دفع أي تكاليف إكرامًا لوالده، وشعر أحمد أن هذه واحدة من تجليات ونفحات أبوالسعود الإبيارى كاتب (يا رايحين للنبى الغالى)!.