حالة التماهى التى يحققها مسلسل (جعفر العمدة) فى الشارع المصرى والعربى وصلت للذروة، الناس لا تشاهد المسلسل، لكنها تتوحد مع البطل، تغضب مع غضبه وتفرح لفرحه، وعندما يصفع واحدة من زوجاته تسبق يدهم يده، وعندما يحنو على أخرى، يسبق حضنهم حضنه، ولو رأيته يشبع خصمه ضربا وطعنا يمسكون هم السكين، إنهم ليسوا فقط مشجعين لكنهم صاروا جميعا (جعفر).
على مدى تاريخ الدراما التليفزيونية حدثت حالات قليلة مماثلة، مثلا فى الستينيات عرض مسلسل (هارب من الأيام) فكانوا يتعاطفون مع البطل عبدالله غيث، ويتمنون أن يحفظوه فى حدقات عيونهم.
وفى نفس المرحلة الزمنية عندما عرض مسلسل (لا تطفئ الشمس) ورحل بطل المسلسل ضمن الأحداث صلاح السعدنى، تحولت مصر إلى سرادق عزاء، مسلسل (ليالى الحلمية) اخترق أبطاله الثلاثة يحيى الفخرانى (سليم البدرى) وصلاح السعدنى (سليمان الغانم) وصفية العمرى (نازك السلحدار) جدار الشاشة ليعيشوا فى الشارع، أحد أنواع السيارات الفارهة التى كانت تميزها الكشافات العريضة حملت اسم (عيون صفية) حبا فى عيون (نازك).
أغلى أنواع البلح فى الأسواق أطلقوا عليه (بلح صفية)، (رأفت الهجان) كان الشباب يقصون شعر رأسهم على طريقة الهجان، ويرتدون (تيشيرت) الهجان، رغم أن الأحداث وهو شاب كانت تجرى فى الخمسينيات.
أتذكر أننا فى مطلع التسعينيات، سافرنا كوفد رسمى إلى مملكة البحرين لتكريم السينما المصرية، وكان محمود عبدالعزيز ضمن الضيوف، عندما صعدنا إلى خشبة المسرح للتكريم وبدلا من سماع موسيقى السلام الوطنى، قدموا لنا هدية موسيقى تتر (رأفت الهجان).
مع مسلسل (يتربى فى عزو) حدث هذا التوحد حتى إن (ماما نونة) الفنانة القديرة كريمة مختار عند رحيلها فى الحلقات الأخيرة من المسلسل بكى الجميع مع حمادة عزو (يحيى الفخرانى).
صنعوا لها دمية كانت هى أغلى هدية يتم تبادلها فى العيد، نور الشريف فى (الحاج متولى) تحول إلى أيقونة تتردد فى الثقافة الشعبية، محمد رمضان مع المخرج محمد سامى حقق ذلك ثلاث مرات متتالية (الأسطورة ) ثم (البرنس) ثم (جعفر العمدة)، وأقاموا الأفراح عند حصوله على الإفراج من السجن.
ليس هذا مجال للمقارنة الفكرية والجمالية بين مسلسل مثل (جعفر العمدة) و(ليالى الحلمية)، كنص درامى، إلا أن ما يجمعهما هو النجاح الشعبى مع اختلاف الأسلحة، علينا احترام النجاح الشعبى ودراسته اجتماعيا.
(جعفر العمدة) مهما كان به الكثير من الملاحظات والهنات الدرامية للكاتب والمخرج محمد سامى، إلا أن الجمهور ربما بسبب تلك الهنات أحبه وتجاوب معه.
صنعوا (تيشيرت) عليه صورته، وباتو يقلبون كوب الشاى مثله بالملعقة المقلوبة، سامى يميل للمونولوج الدرامى الطويل، كحل دائم، وهو ما يخاصم روح الدراما، القائمة على (الديالوج) الحوار بين الأشخاص.
ولكن ما نراه عمليا نكتشف أن تلك المشاهد تحديدا ينتظرها الجمهور، لو أحصيت فى كل حلقة عدد (المونولوجات) الدرامية التى تحكى فى المحكى لاكتشفت أن العمل الفنى هو عدد لا نهائى من هذه المونولوجات. الناس أحبت كل ما نراه عيوبا درامية.
لو نزعت محمد رمضان من جعفر العمدة سيتضاءل النجاح أو ربما لن تعثر له على أثر، حالة تفاعلية كيميائية بين الكاتب والمخرج محمد سامى ومحمد رمضان.
الأمر يستحق قطعا دراسة هادئة تبدأ من الاعتراف بأن الذائقة الشعبية لا يمكن لأحد تجاهلها، لأنها تعبر عن أسباب اقتصادية وسياسية واجتماعية ونفسية، تستحق كشف سر التوحد المتجاوز كل الحسابات التقليدية، وكأنه معادل موضوعى لتقليب الشاى بالملعقة المقلوبة!!.