بقلم - طارق الشناوي
تربطني علاقة استثنائية مع الموسيقار الراحل الكبير محمد الموجي، فهو أول من أجريت معه حواراً صحافياً، وأول من دخلت بيته، وصار أبناؤه أصدقائي، وأول من أكلت في بيته «ملوخية بالأرانب»، وأول من أقام ضدي دعوى قضائية!
الخميس القادم في موسم الرياض موعد عشاق الموسيقى الشرقية والنغم الأصيل مع واحد من أهم أساطين و«أسطوات» المهنة محمد الموجي، الذي رغم أنه لم يتعلم الموسيقى ولا كتابة «النوتة»، فإن إبداعه صار هدفاً للدارسين، والكثير من رسائل الدكتوراه والماجستير كان هدفها تحليل هذا الإنجاز الذي يقف على حدود الإعجاز.
اختار «أبو ناصر» المستشار تركي آل الشيخ (رئيس هيئة الترفيه)، أن تحمل الأمسية التي تقام ضمن أنشطة موسم الرياض اسم «روائع الموجي»، حيث إن الوجه الآخر لهذا الموسيقار الفطري العبقري هو أن أعماله الموسيقية ترتفع لمكانة الروائع.
هو الأغزر في دنيا الإبداع، وطبقاً لأوراق جمعية المؤلفين والملحنين الرسمية، وصل رصيده إلى 1800 لحن، ويأتي بعده بليغ حمدي 1500 لحن. ملحوظة الموسوعة المتداولة عبر «النت» أخطأت في الرصد، وتغافلت عن أكثر من 300 لحن.
الموجي يتعامل باحترافية مع المهنة التي تعني الالتزام، والإلهام بطبعه يتناقض مع تلك الدقة، الموجي ينام على نغمة ويصحو على نغمة، يقولون: «إن الملائكة تنعم عليه كل ليلة بومضة إبداعية، عندما يستيقظ يجدها (تحت المخدة)»، يكفي أن أذكر لكم أن الموجي في نهاية الأربعينات عندما غادر قريته «بيلا» بمحافظة كفر الشيخ متجهاً للقاهرة، لم يحضر معه من متاع الدنيا سوى عود ومخدة!!
غادرنا الموجي قبل نحو 28 عاماً، حيث توقف قلبه عن النبض، بينما موسيقاه لا تزال تنبض.
وقبل نحو 15 عاماً شب حريق في شقة الموسيقار الكبير، لم يدمر فقط أثاث الشقة، لكن النيران التهمت تاريخاً فنياً مرصعاً بالنغمات والإيقاعات. أكثر من نصف قرن إبداع أتت عليه النيران، لم يحترق فقط تاريخ الموسيقار الكبير، ولكن احترق جزء عزيز من تاريخنا الموسيقي الشرقي، سجله بصوته وعلى العود.
وكان من ضمن هوايات «الموجي» الاحتفاظ بالتسجيلات الخاصة، وبعد رحيله ظل ابنه الراحل الموجي الصغير يجدد التسجيلات النادرة، بل اكتشف أيضاً 50 لحناً لم تذع من قبل.
وأتت النيران أيضاً على أوراق «الموجي» الخاصة، ومذكراته، والصور التي جمعته مع كل العمالقة الذين عاصرهم.
هذه الشقة تحديداً لي فيها ذكريات البدايات، فكثيراً ما ترددت عليها من دون موعد مسبق، وعرفت أشقاء الموجي الصغير، الموزع وعازف الكمان المبدع يحيى الموجي، وشقيقه الأكبر «أمين»، وشقيقاته «ألحان» و«أنغام» و«غنوة»، ووالدته «أم أمين».
إنها من المرات النادرة جداً التي صار فيها بيني وبين أهل البيت صلة حميمة.
من أنقذ تلك التسجيلات؟
إن الموجي الصغير دائماً ما كان يمنح القنوات الإذاعية والتلفزيونية مفاجآت بصوت والده منها لحن «أسألك الرحيلا» الذي لحنه الموجي قبل أن يشرع فيه عبد الوهاب، وبعد أن منح عبد الوهاب اللحن لنجاة، قال الموجي: «بعد أن أطلق أستاذي عبد الوهاب لحنه، لا يجوز لي أن أقدم لحني للناس».
عشاق الموجي، سارعوا بإرسال جزء كبير من هذه التسجيلات، إلى الأسرة، وأنقذوها من الضياع.
ويبقى أن أذكر لكم تلك الواقعة التي دفعت الموجي لإقامة دعوى قضائية ضدي، وذلك في أعقاب رحيل الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب، عام 91.
عندما كتبت تحقيقاً عن عبد الوهاب تناولت فيه بعض الألحان التي اتُهم فيها عبد الوهاب بالاقتباس من الآخرين، وذكرت لحنين «حبيبي لعبته» و«وأحبك وأنت فاكرني»، كان الموجي قد أخبرني في الثمانينات، أن عبد الوهاب قد استمع إلى لحنين له قبل أن يسجلهما وأعجبته بعض مقاطع فاستعان بهما في لحنيه، وعندما عاتبه قال له: «وفيها إيه يا موجي عندما يستعير أب كرافات من ابنه»، وعندما أعدت نشر تلك الواقعة غضب الموجي قائلاً: «بعد رحيل أبي عبد الوهاب لا يجوز أن أذكر ذلك مجدداً»، وتصافينا، وذهبت إلى منزله، وتناولت أجمل «ملوخية بالأرانب» أبدعت فيها كالعادة زوجته «أم أمين»!!