بقلم - طارق الشناوي
يقينًا، الزمن أهم وأصدق مقياس، إلا أنك لا تستطيع أن تحدده بالأيام أو السنوات أو حتى القرون، وفى النهاية سيقول كلمته المنصفة.
هناك مخرجون كبار سقطوا سهوًا من تاريخنا المصرى، أضع فى أول سطر المخرج الكبير توفيق صالح صاحب (درب المهابيل) و(يوميات نائب فى الأرياف ) و(صراع الأبطال)، و(المخدوعون)، والأخير من إنتاج مؤسسة السينما السورية ويوضع بين أهم عشرة أفلام عربية.
جمعتنا على مدى يزيد على عشر سنوات اللجنة العليا للمهرجانات، والتى كان منوطًا بها اختيار الأفلام التى تصلح لتمثيل مصر، كان توفيق صالح عنوان اللجنة، كثيرًا ما كنا نختلف، فهو بطبعه مثالى، كنا ندرك أن (العين بصيرة والإيد قصيرة)، ونختار أقصد الأغلبية، من واقع ما هو متاح، وكان من أعضاء اللجنة المخرج الكبير عبدالقادر التلمسانى والكاتب الكبير عبدالحى أديب، والناقدان على أبوشادى وماجدة موريس، ومديرا التصوير محمود عبدالسميع وعلى الغزولى.
الأستاذ توفيق يتشبث برأيه إلى أقصى درجة، معلنًا أحيانا الغضب، ورغم ذلك فبمجرد أن تنتهى المناقشات الحادة يتم تلطيف الأجواء بكلمة أو قفشة من أبوشادى، يضحك عليها توفيق صالح، ونبدأ بعدها فى الجلسة التالية فتح صفحة جديدة من المناقشات وأيضا الخلافات.
من حسن حظى أن السائق الخاص بالأستاذ توفيق كثيرًا ما يرتبط بمشاوير أسرية، كنت أصطحبه فى سيارتى المتواضعة من اللجنة فى مدينة الفنون بالهرم إلى بيته فى الجيزة قبل أن أعود إلى بيتى فى المنيل، وفى تلك الرحلة كثيرًا ما كان يروى لى حكايات، أشعر أن بعضها لا يصلح للنشر لأنها أسرار قد تمس ورثة هذا الفنان أو تلك الفنانة، وبعضها لا بأس من نشرها، حتى دون استئذان صاحبها.
عندما كانت سعاد حسنى تصور آخر أفلامها (الراعى والنساء) فى مدينة (الفيوم) للمخرج على بدرخان بعد انفصالهما، إلا أنهما ظلا صديقين، حدثت مشكلة كادت تؤدى إلى إيقاف التصوير بسبب تباين وجهات النظر بين سعاد وبدرخان، اكتشفت عندما ذهبت إلى موقع التصوير أن توفيق صالح كما كان أبا روحيا لبدرخان، فهو أيضا بمثابة الأب الروحى لسعاد، يلعب الدور الذى افتقدته سعاد بعد غياب صلاح جاهين.. وهكذا نجح فى إذابة الخلاف بينهما، وسألت الأستاذ عن سعاد قال لى: أهم موهبة ظهرت فى دنيا التمثيل على الإطلاق.
كان توفيق صالح أصغر أعضاء (الحرافيش) سنًا، وامتدت به الحياة بعدهم، رحل فى 2013، وطلبت منه أن يسجل للزمن شهادته عن ذلك الزمن الجميل، ولديه الكثير من التفاصيل، أجابنى أنه لا يجوز أن يحكى عن أشياء أصحابها ليسوا بيننا، وسوف يحتفظ بهذه الذكريات فى صدره، ولكن مما رواه لى ولا بأس من نشره أنهم قبل رحيل أحمد مظهر، وكان قد أقعده المرض ولم يعد قادرًا على الخروج من المنزل للقائهم الأسبوعى، قرر نجيب محفوظ وكل شلة الحرافيش أن يفاجئوا مظهر بالزيارة فى فيلته، ليرحل بعد هذا اللقاء بأيام.
سألته عن تلاميذه قال لى إنه أحب داوود عبد السيد وعلى بدرخان، كانا الأقرب فنيًا وإنسانيًا، ومن الجيل التالى أحب سينما شريف عرفة، ومن المخرجين الكبار عز الدين ذوالفقار، وكان يراه أصدق وأهم التعبيريين، بينما رأى أن أفضل مخرج على الإطلاق فى تقديم الصورة بإيقاعها المرئى والصوتى يوسف شاهين، إلا أنه كثيرًا ما اختلف على الأبعاد الفكرية فى أفلامه لأنها تحمل الكثير من المراهقة الفكرية.. وإلى هنا أسكت عن الكلام المباح!.