لا تزال السياسة هي المسيطرة على فعاليات برلين (73).
في تلك الدورة التي شهدت عودة الحياة لأواصل المهرجان بعد عامين من الترقب، أقيمت فيها الفعاليات افتراضيًا في واحدة، بينما في الثانية- العام الماضى- تمت أحداثه واقعيًا بنسبة تتجاوز 70 في المائة تحت أعلى درجات الاحتراز.
حتى إننا كنا نُجرى اختبارًا كل 24 ساعة، ولا يُسمح بالتواجد في السينما أو حتى في كافيتريا إلا بعد الحصول على البراءة (سلبية العينة)، وكانت كل قواعد التباعد الاجتماعى مطبقة في دور العرض، والإقبال الإعلامى انخفض للنصف، خاصة بين العرب، حيث فضّل أغلب الزملاء الاعتذار خوفا من ضراوة قواعد الاحتراز، ناهيك عن احتمال العدوى.
هذه الدورة تم التخفيف تمامًا من الإجراءات المتعلقة بالفحص، والتى كانت تتم مجانًا لكل المواطنين في الشارع، وليس فقط ضيوف المهرجان، وأصبح ارتداء الكمامة اختياريًّا، ورغم ذلك فهى متواجدة في المهرجان، إلا أنها لا تسيطر على المشهد العام.
قى بداية الحرب بين روسيا وأوكرانيا، لم تكن ألمانيا بعيدة عن مرمى النيران الروسية، فلقد أعلن الرئيس الأوكرانى زيلينسكى أن الروس كتبوا على صواريخهم إلى برلين كبداية لغزو أوروبا، ولتعيد للأذهان ويلات الحرب العالمية الثانية التي تغيرت فيها الكفة تماما بعد هزيمة ألمانيا في زمن هتلر، ثم تقسيمها إلى شرقية تَوجُّهها وولاؤها شيوعى، والثانية غربية رأسمالية.
وإقامة سور يفصل بينهما، وسقط الجدار الفاصل مع تفكك الاتحاد السوفيتى.. اعتبر زيلينسكى أن المعركة الآن في إقامة سور بين أوكرانيا وعمقها واختيارها واستراتيجيتها أوروبا، وهو ما يراه حقًا مكتسبًا لها بأن تعود إلى منبعها الأوروبى.. بينما بوتين يرى في ذلك تهديدًا له كدولة لها سيادة. ورغم تأكيد أكثر من دولة أوروبية أنها فقط تزود أوكرانيا بأسلحة دفاعية ولا يمكن أن تسمح بأكثر من ذلك.
إلا أن ردود فعل روسيا الغاضبة تعتبرها أشبه بإعلان حرب أوروبية أمريكية ضد روسيا.. وهو ما دفع ألمانيا مؤخرًا إلى تزويد أوكرانيا بدبابات، لأول مرة تدخل ألمانيا بالعديد من الأسلحة كما أنها لأول مرة تتخلى عن حذرها من التورط في معارك عسكرية.
بل ضاعفت ميزانية القوات المسلحة تحسبًا لأى معادلات جديدة في المعركة التي لا يستبعد أن يمتد لهيبها إلى ما كنا نطلق عليه في الماضى (أوروبا الغربية).
المواجهة الثقيلة بالأسلحة لا تعنى أن نردد مع عبدالحليم حافظ: (سِكت الكلام والبندقية اتكلمت).. القوى الناعمة حتى في عز طلقات الرصاص لا تسكت أبدًا، بل تزيد من سرعة وقوة طلقاتها. فلوديمير زيلينسكى، الفنان الكوميدى الذي يجيد بحكم خبرته توجيه المشاعر، يعلم جيدًا سحر القوة الناعمة وقدرتها على النفاذ إلى قلوب الجماهير العريضة.. وهكذا انتقل بكلمته في افتتاحات المهرجانات الثلاثة الكبرى (كان) و(فينسيا) وأخيرا (برلين).
الكلمة تلعب دورًا إيجابيًّا في معركته مع روسيا، وتوجه ضرباتها في العمق مع طلقات المدافع لاستعادة الأراضى التي اغتصبتها روسيا بحجج غير قانونية وأجرت انتخابات وهمية تحت سطوة الاحتلال، لتؤكد أن ولاء أغلب المواطنين مع روسيا.. الكل انفعل أثناء كلمة زيلينسكى، بينما انفطرت الدموع الصادقة من عيون النجمة آن هاثواى.
زيلينسكى قطعًا لم يبادر بطلب إلقاء كلمة تبث من خلال المهرجانات على العالم أجمع، ولكنه يجيد اقتناص الفرص المتاحة أمامه لتأكيد موقفه.. والملاحظ أن إدارة المهرجانات الكبرى اتخذت قرارات مماثلة في علاقتها بالسينما الروسية، رحبت بالأفلام الروسية غير المدعومة من الدولة.
كما أن صُنّاعها غير موالين سياسيًّا لبوتين، وذلك حتى لا يصبح معاديًا للإنسان الروسى، فهو كمهرجان حدد موقفه ضد سياسة بوتين التي وضعت العالم كله في المواجهة وتحمل خسائر وأزمات متلاحقة بسبب استمرار الحرب عامًا وبضعة أيام.
لم تكن روسيا فقط هي كل العنوان في المواجهة، ولكنها قطعًا (المانشيت) الأبرز.. جدد مهرجان برلين موقفه المؤيد لمظاهرات الحرية في إيران، ووقف ضد تعسف الدولة الموجه بضراوة إلى عدد من مشاهير المخرجين.
محددة إقامتهم ومنعهم من السفر خارج الحدود وتهديدهم بالسجن، وعلى رأسهم جعفر بناهى ومحمد رسولوف، رغم أن أفلامهما تسافر بطريقة ما لتلك المهرجانات، وتحصد أيضا الجوائز الكبرى، وخاصة في «برلين» الذي منح «بناهى» ثم «رسولوف» تباعا (الدب الذهبى).
وتيرة الاحتجاجات في إيران تتصاعد للمطالبة بالديمقراطية، وحرية ارتداء أو عدم ارتداء الحجاب، وإسقاط الأحكام القانونية التي تدين مَن لا ترتدى الحجاب، وأيضا تحدد مواصفات الحجاب الشرعى.. ومن تُخالِف، تُقدَّم للمحاكمة، والمهرجان أعلن تأييده للشارع الإيرانى.
عُرض، مساء أمس، الفيلم الذي يترقبه الجميع (القوة العظمى) لشون بن، الذي يعتبر فاكهة المهرجان. أشاد به زيلينسكى في كلمته، وهو من أكثر الأفلام التي أتيح لها العرض أكثر من مرة لاستيعاب الجمهور، متجاوزة فيلم الافتتاح (جاءت لى) الذي عرض قبل الافتتاح الرسمى للصحفيين بأربع وعشرين ساعة.. لم أشاهد فيلم شون بن (القوة العظمى) حتى كتابة هذه السطور.
توقع المبرمجون قطعًا هذا الإقبال على فيلم شون بن المعروف بمواقفه المؤيدة دائما للحريات في كل القضايا التي يعيشها العالم.
رأيت مساء أمس الأول في الافتتاح مظاهرتين: واحدة على السجادة الحمراء من منظمة عنوانها (آخر جيل) مدافعة عن البيئة، والحقيقة أن برلين من أكثر المهرجانات تشجيعًا للحفاظ على البيئة.. وكانت هناك مظاهرات أخرى فئوية هذه المرة.
حرص المتظاهرون في حوار أحدهم معى على تأكيد أنهم لن يقفوا ضد المهرجان ولا يريدوا سرقة الكاميرا من فعالياته، ولكنهم فقط يريدون تحقيق مطالبهم وهم أصحاب (التاكسيات) الذين يشعرون بالتضرر من (أوبر) ويريدون السماح لهم بالتوقف أمام دار العرض التي تقدم أفلام المهرجان، كما أن العاملين في أحد المجمعات السينمائية يريدون عقودًا مستدامة.
المظاهرة على بُعد أمتار قليلة من قصر الافتتاح، إلا أنهم كانوا حريصين على توصيل رسالة للعالم من خلال الكاميرات التي غطت تلك المظاهرات بأنهم داعمون لمهرجان بلدهم.
.. ونتابع غدًا فعاليات المهرجان، الذي يمكن وصفه بأنه (كثيرٌ من السياسة.. قليلٌ من السينما)!.