بقلم:طارق الشناوي
فان جوخ قطع أذنه وقدّمها هدية لحبيبته.. قصة تحوطها العديد من الأكاذيب، ولكننا نرتاح أكثر عندما نستمع إليها ونصدقها، فهى تصف جنون العاشق الولهان الذى كان على استعداد لأن يقتطع من جسده فى كل يوم قطعة حتى ترضى عنه حبيبته.
لدينا العديد من تلك الحكايات التى كثيرًا ما نذكرها فى أكثر من مناسبة على اعتبار أنها عنوان الحقيقة، عندك مثلًا هذه الحكاية التى نشرت مئات المرات وسوف تتردد كثيرًا فى الأيام القادمة، تفاصيل الحكاية أن «أنور السادات» عندما اقتحم مبنى الإذاعة المصرية الساعة السابعة والنصف من صباح 23 يوليو عام 1952 وأذاع أول بيان للثورة، التقى على السلم بالمطرب محمد رشدى سأله: ح تغنى إيه النهارده؟ أجابه رشدى: موال «اللى مكتوب ع الجبين»، انزعج السادات لأنه رأى فى الكلمات فألًا سيئًا، وطلب منه غناء (قولوا لمأذون البلد) التى كانت فى ذلك الوقت قد حققت نجاحًا جماهيريًا، الكل يذكر تلك الواقعة باعتبارها الحقيقة.
لو عدت إلى الأرشيف المقروء والمسموع والمرئى ستجد أن «السادات» لم يكذّبها قبل وبعد أن أصبح رئيسًا للجمهورية، ولا محمد رشدى تطرق إليها بالتأكيد أو التكذيب، ولو أمعنت التفكير أو حتى دون أن تُمعن ستكتشف استحالة حدوث ذلك عمليًا، فما هى الفرقة الموسيقية التى يستيقظ كل أفرادها فى الفجر لتسجيل أغنية، ثم الأهم أن شاهد الإثبات الوحيد - أمد الله فى عمره - وهو الإذاعى الكبير «فهمى عمر».
حيث إنه كان مذيع الهواء أثناء أحداث الثورة الذى التقى السادات، أكد لى أن هذا محض خيال، ووثائق هذا اليوم فى جدول البث الإذاعى تم الاحتفاظ بها، ولن تجد فيها لا «قولوا لمأذون البلد» ولا «المكتوب على الجبين»، قلت له: ولكن الواقعة ترددت كثيرًا ولم يكذّبها الرئيس السادات، رغم أنه كان متابعا جيدا لكل ما يدور بـ (الميديا)، وأنت أيضا لم تكذبها ولا مرة! أجابنى: لأنه لا أحد سألنى عن صحتها، أنت سألتنى وأنا أقول لك إنها كاذبة!.
من الأقاويل التى لها مذاق الحقيقة زواج سرى بين «أم كلثوم» و«مصطفى أمين»، وأنها وجهت فى قصيدة «الأطلال» إلى «جمال عبدالناصر» عام 66 بعد عامين من إلقاء القبض عليه نداءً غنائيًا تطالبه بالإفراج عنه، مرددة: «أعطنى حريتى أطلق يديا، إننى أعطيت ما استبقيت شيئا» رغم أنها ومنذ عام 55 وحتى رحيلها 75 كانت متزوجة من أستاذ أمراض الجلدية د. حسن الحفناوى.
والحقيقة أنه فور إلقاء القبض على «مصطفى أمين» فى فيلته بالإسكندرية، اقتحمت المخابرات مكتبه فى أخبار اليوم وعثروا بين الأوراق على وثيقة زواج عرفى بالفنانة «شادية»، وتسرب من المخابرات نصف الخبر أنه تزوج عرفيًا من مطربة شهيرة، ولم يذكروا اسمها.. اعتقد الناس وعدد من المؤرخين أنها «أم كلثوم» ولم نكتفِ بهذا القدر، بل خلعنا أيضًا على كلمات «الأطلال» العاطفية رداءً سياسيًا!.
هل كانت تجرؤ أم كلثوم أن تنتقد عبدالناصر ولو تلميحًا؟.. وقبلها قالوا إنها فى لقاء مع عبدالناصر حضره أيضًا محمد عبدالوهاب الذى كان صديقًا لمصطفى أمين عندما تطرق الأمر للقبض على مصطفى قال عبدالوهاب: (المسىء يا ريس لا زم يأخذ جزاؤه)، بينما أم كلثوم قالت إنه (وطنى شريف).
الناس هى التى ترسم صورة ذهنية راسخة للزعماء والفنانين.. ولأن السادات لديهم عنده حس فنى فسوف يطلب غناء (قولوا لمأذون البلد)، ولأن أم كلثوم جدعة وبميت راجل فسوف تقول لعبدالناصر (أعطنى حريتى أطلق يديا).. ولأن عبدالوهاب يخشى السلطة، فسوف يلوذ بالصمت فى حضرة الرئيس.. إنها أكاذيب حلوة المذاق بعد أن أضافوا لها الكثير من الكاتشب والمايونيز.