بقلم : عماد الدين حسين
هذه السطور عن أبى رحمه الله، أستأذن القراء الأعزاء فى كتابتها علها تساعدنى على العودة للحياة العادية الطبيعية.
فى تمام الساعة السابعة والثلث من صباح يوم الثلاثاء قبل الماضى، اتصل بى أحد أبناء عمومتى من أسيوط.
وحينما رأيت الرقم، عرفت أنه سيخبرنى بالخبر الأسوأ والذى حاولت أن أهرب كثيرا من إمكانية حدوثه.
قبل سنوات طويلة قرأت مقولة تقول: «الموت فعل يخص الآخرين»، وهى مقولة صحيحة إلى حد كبير، حيث يعتقد الكثير منا أن الموت لن يقترب من قريب أو حبيب له، وحينما يحدث ذلك، نتذكر أن الموت هو الحقيقة المطلقة الوحيدة التى يؤمن بها كل سكان العالم بلا استثناء.
وبالتالى فالعبارة الصحيحة هى أن الموت فعل يخص الجميع، والحياة عبارة عن قطار يركبه الجميع، وكل واحد منا سينزل فى محطة ما، طال الزمن أو قصر.
اتصل قريبى وقال لى البقية فى حياتك.
بكيت كما لم أبك من قبل، وغادرت وزوجتى بسرعة إلى مسقط رأسى فى قرية التمساحية بمركز القوصية بمحافظة أسيوط.
يوم الخميس قبل الماضى ٤ نوفمبر، أصيب والدى بجلطة صعبة فى المخ، حينما كان يتناول الغداء فى البيت، ومن سوء حظه، كما قال لى الأطباء المعالجون إن بعضًا من الأكل نزل على الرئة وحدث ارتجاع، فضاعف من المشكلة، إضافة إلى أنه كان يعانى أصلا من السكر والضغط، وأجرى قبل ثلاثين عاما عملية قلب مفتوح، لأنه كان مدخنا شرها، ومحبا لكل أنواع المأكولات المسبكة التى تتعب القلب وسائر أعضاء الجسم.
الجلطة هى الثانية خلال عامين وأدت إلى توقف مراكز الحركة والكلام والغياب التام عن الوعى. إضافة إلى شكوك أنه ربما أصيب بكورونا.
زرت والدى فى المستشفى الجامعى بأسيوط مع إخوتى، كلمناه كثيرا وهو غائب عن الوعى، لكن إحساسى كان يقول لى إنه يسمعنا، لكنه لا يستطيع الرد.
الأطباء المعالجون وبعضهم أقارب ومعارف، قالوا لى أكثر من مرة وبصورة واضحة لا لبس فيها إن الحالة صعبة جدا وخطيرة وإن نسبة الوعى لا تزيد على ٤ درجات، علما بأنها عند الإنسان السليم تصل إلى ١٥ درجة.
تركت المستشفى وأنا متوقع أن أسمع النبأ المحزن فى أى لحظة، وكلما جاءنى اتصال من أحد إخوتى خصوصا الأصغر بهاء الدين الذى كان بجوار أبى ظننت أنه سيقول لى الخبر المؤلم.
قبل الوفاة بساعات قال لى أحد الأصدقاء فى حفل ختام مهرجان الموسيقى العربية، وكان يعرف أن أبى مصاب بجلطة فى المخ: «سوف أقول لك كلاما قد يصدمك، عليك أن تدعو ربك أن يحسن خاتمة أبيك، وأن يتوفاه عزيزا كما عاش عزيزا».
قلت له وما هى العزة فى الموت؟ فقال أن يموت الإنسان وهو واقف على قدميه، ومن دون أن يتعذب فى المرض ويتعب نفسه ومن حوله، وأن أحد أقاربه أصيب بجلطة مماثلة وظل سنوات طويلة قعيدا وغائبا عن الوعى، وكان أهله يدعون له طوال الوقت أن يشفيه الله شفاء كاملا، أو يتوفاه بسرعة حتى يستريح من العذاب.
غادرت القاهرة ووصلت إلى بيت أبى وأمى وطوال الطريق على الصحراوى الغربى، وكلما اتصل بى أحد الأصدقاء معزيا أنهار باكيا، دخلت البيت وقابلت أمى فبكيت أكثر، مشفقا على حالتها بعد وفاة أبى حيث تزوجا نهاية عام ١٩٥٨.
صلينا العصر، ثم صلينا الجنازة، وبعدها ذهبنا إلى مقابر عائلتنا التى تقع خلف سور الدير المحرق مباشرة.
أصررت على النزول للقبر مع أخى، كى ألقى النظرة الأخيرة على أبى، وساعدت فى وضعه فى القبر بالصورة الصحيحة ثم كشفنا وجهه، والحمد لله أنه كان مرتاحا وهادئا كما رأيته آخر مرة فى المستشفى.
خرجنا من المقبرة وأغلقناه بالطوب، ثم أهلنا علينا التراب، وبدأت أفكر فى هذا المشهد الأخير ودلالاته وعبره ومواعظه، لكن صورة أبى الأخيرة فى القبر لا تزال تلازمنى وسوف تظل كذلك.
وأتمنى أن أعود للموضوع مرة أخرى وأخيرة عن علاقتى بأبى، فربما تكون ذات فائدة لكيفية تعامل الآباء مع أبنائهم.
يرحم الله أبى وجميع أمواتنا.