بقلم: عماد الدين حسين
فى الأسبوع الماضى أمرت النيابة العامة بحبس اثنين احتياطيا بتهمة تصنيع الجبنة من مادة معجون طلاء الجدران.
تفاصيل هذا الخبر المرعب تقول إن النيابة تلقت بلاغا من رئيس المكتب المركزى لمراقبة الأغذية فى مركز تلا بالمنوفية بأن لجنة من المكتب عثرت على كميات كبيرة من الجبن المتعفن غير الصالح للاستهلاك الآدمى فى مصنع غير مرخص تنبعث منه رائحة طلاء الجدران، وبالفحص تم اكتشاف خلط مادة معجن الطلاء مع مكونات الجبن لزيادة كثافتها وسمكها.
مالك المنشأة اعترف بأنها غير مرخصة، وألقى بالمسئولية على مدير المصنع. التحريات قالت إن العاملين فى المنشأة لم يكونوا على علم بما كان يفعله المدير، وأن الكميات المضبوطة كانت معدة للبيع والتوزيع على جمهور المستهلكين.
النيابة قررت حبس مالك المنشأة والمورد وأمرت بضبط المدير الهارب وباقى المتهمين بتهم إقامة منشأة صناعية بغير ترخيص والغش فى إنتاج الجبن وإعداده للبيع وحيازة سلعة بقصد الاتجار بها غير مصحوبة بالمستندات الدالة على مصدر حيازتها.
وحينما قرأت تفاصيل ما حدث، كدت أقول أين ذهب ضمير هؤلاء المجرمين وهم يرتكبون جريمتهم، لكنى تذكرت أن مثل هذه الجرائم صارت تتكرر فى العديد من البلدان.
أتذكر أننى قرأت خبرا فى أوائل الألفية عن ضبط مصنع فى دولة عربية يقوم المشرفون عليه وينتمون لجنسية آسيوية باستخدام الجير بدلا من المادة الفعالة لأحد الأدوية المهمة لسيولة الدم وجلطات القلب.
لم أكن أتصور وقتها أن هناك بشرا يمكن أن يصل بهم الإجرام إلى هذه الدرجة، ثم تذكرت بعدها الحوداث المتكررة ببيع لحوم الحمير على اعتبار أنها لحوم بقر أو جاموس.
وبالتالى توقفت من يومها عن الاندهاش من هذه النوعية من الجرائم التى يموت فيها ضمير أصحابها تماما مقابل تحقيق الأرباح.
لا أعلم ما هو الفارق لو أن مصنع أجبان تلا عمل بصورة شرعية بدلا من خلط الألبان بالدهانات، هل الفارق كبير لهذه الدرجة التى تجعله يفعل ذلك، وحتى إذا كان الفارق كبيرا ألم يفكر هؤلاء أن بعض أقاربهم فى المنطقة يمكن أن يتناولوا هذه الجبنة المصنوعة من معجون طلاء الجدران، فيصابوا وقد يموتوا، ان لم يكن اليوم فغدا؟!
بالطبع إجرام البعض يصل إلى ذرى لا يتخيلها أحد، ومن أجل هؤلاء وجد القانون والعقاب الرادع. وبما أننا لا ينبغى أن نعول على موضوع الضمير لدى هذه الفئة من البشر، فالسؤال كيف نشأ هذا المصنع وعمل واستمر، ومن الذى يفترض أن نحاسبه على هذه الجريمة البشعة بجانب أصحابه ومديره وبعض العاملين فيه الذين كانوا يعرفون حقيقة نشاطه؟!
لدينا تشريعات كثيرة ولدينا عشرات الأجهزة فى وزارات مختلفة مسئولة عن مصانع المواد الغذائية فهل يعقل أن كل هذه الجهات لا تعلم بوجود مصنع الجبنة؟ سوف ننسى قليلا أن المصنع يخلط الأجبان بالدهانات، وسنفترض أن المصنع ينتج الجبنة بالطريقة الطبيعية الصحيحة أليس مفروضا أن هناك جهة مسئولة عن التراخيص، ألا يمر مسئولو هذه الجهة حتى يتأكدوا أن هذه المنشأة تعمل بصورة قانونية؟!
هذا الأمر يشبه بالضبط أن يقوم أحد الأشخاص ببناء عمارة من عشرة أو عشرين دورا من دون ترخيص أمام أنظار الجميع فى حين أن الحى يمكنه ببساطة أن يسأل صاحب العمارة السؤال التقليدى البسيط وهو: أين الترخيص؟!
قد يتهمنى البعض بالسذاجة بسبب طرحى لهذه الأسئلة التى سيقول البعض إن إجاباتها معروفة.
وبالتالى نصل إلى النقطة الجوهرية وهى ماذا تفعل الأجهزة المسئولة عن مثل هذه الأنشطة؟
سيرد البعض ويقول إن مسئولى المكتب المركزى لمراقبة الأغذية فى تلا هم من اكتشفوا الواقعة، وأبلغوا النيابة بها. وهو أمر جيد،
لكن سؤالى لا يتعلق فقط بهذه الواقعة، بل بالقصص المماثلة وحتى فى حالة مصنع أجبان تلا لم نعرف الإجابة على سؤال مهم وهو منذ متى يعمل هذا المصنع غير المرخص ومنذ متى يخلط الألبان بمعجون الدهانات؟!
نحتاج لثورة شاملة فى المحليات ننسف فيها طريقة العمل التى أماتت ضمائر البعض فى هذا المرفق الحيوى من أول مثل هذه النوعية من المصانع نهاية بالبناء العشوائى وغير المرخص مرورا بعشرات نوعيات الفساد فى قطاعات مختلفة تخص الجماهير، ولا نملك إلا أن ندعو على هؤلاء الظلمة وكل من يسهل لهم عملهم، ونتمنى أن يحصلوا على أشد العقوبات حتى يكونوا عبرة لغيرهم.