برلين بطاقم سياسى جديد

بعد سبعة وسبعين يوما من تاريخ صدور نتائج الانتخابات لشغل مقاعد البوندستاج، برلمان ألمانيا، تمكنت أحزاب الاشتراكيين الديمقراطيين والخضر والديمقراطيين الأحرار من إعلان توصلها لاتفاق على تشكيل ائتلاف حاكم. نشر الاتفاق فى مائة وسبعة وسبعين صفحة وكان منطقيا أن يجرى الإعلان عن تشكيل الحكومة الجديدة بعد الحصول على ثقة البرلمان والتقاء أعضائها وفى مقدمتهم رئيس الحزب الاشتراكى الديمقراطى، بصفته رئيس الحكومة ومستشار ألمانيا الجديد، برئيس الدولة.
بدت لى هذه المقدمة عندما كتبتها قبل أيام روتينية للغاية. مقدمة تصلح لخبر فى صفحة الأخبار الخارجية يحكى عن انتخابات تشريعية فى دولة من بين حوالى مائة دولة أو أكثر أسبغ عليها جميعا سمة الديمقراطية الرئيس بايدن عندما قرر دعوتها للمشاركة فى قمة فريدة من نوعها، قمة الدول الديمقراطية. استحقت ألمانيا الجديدة صفة الدولة الكبرى يوم توحدت فى أعقاب سقوط الشيوعية، وهى الآن تستحق أن تصطف فى صف القوى العظمى لو شاءت نخبتها السياسية أن تسلك هذا الطريق نحو المستقبل. كانت بالفعل واحدة من هذه الدول العظمى حتى نشوب الحرب العالمية الأولى. دخلت حربا عالمية وانهزمت وذاق شعبها الهوان وعادت فى أقل من عشرين عاما قوة عظمى فدخلت حربا عالمية ثانية. انهزمت مرة ثانية وأقسمت نخبتها الحاكمة ومعها الولايات المتحدة قسما مغلظا من بندين أولهما التزام حكومات ألمانيا بالديمقراطية الليبرالية كما هى مفهومة ومطبقة فى دول الغرب، والثانى انتهاجها سياسة السلم ونبذ الحرب، كلاهما فى إطار الاحتماء بحلف شمال الأطلسى والمساهمة فى أنشطته وأهدافه السلمية فقط.
•••
خلاصة الكلام، صحيح أن ألمانيا دولة من مائة دولة ديمقراطية بالمعنى الأمريكى، الغالبية العظمى منها ينطبق عليها صفة الدول العوام إن صح التعبير، ولكن الصحيح أيضا أن ألمانيا ربما هى الآن الدولة الكبرى الأكثر أهلية لتنتقل فى سنوات قليلة إلى مرتبة القوى العظمى، فالإمكانات الضرورية لهذه القوة متوافرة. يكفى أن نردد مع نشرات الإحصاء الصادرة عن المؤسسات الدولية الاعتراف بأن ألمانيا قطب رابع من أقطاب الاقتصاد العالمى بعد الولايات المتحدة والصين واليابان. إلحاح هذا الواقع الفريد فى نوعه كان سببا من الأسباب التى دفعتنى للكتابة عن ألمانيا كطرف دولى يتأثر إلى العمق بما يجرى حوله وهو مدعو بإصرار متزايد من أمريكا ليؤثر بقدر ما يتأثر.
لسبب آخر تصورت أن للتجربة الألمانية سحرا أوروبيا من نوع خاص وأنها بذلك تستحق الاهتمام والكتابة عنها. لفت نظرى تحليل يضع السيدة أنجيلا ميركل على مستوى أهمية اثنين لعبا أدوارا كبرى فى تاريخ ألمانيا وأوروبا فى آنٍ واحد. الأول تعود سيرته إلى عقد السبعينيات من القرن التاسع عشر أى قبل مائة وخمسين عاما تقريبا، هو أوتو فون بسمارك المستشار الذى صنع ألمانيا كما نعرفها عندما وحد اقطاعياتها وولاياتها وإماراتها فى دولة واحدة، وهو الذى امتحن قوتها وحدد لها مكانا متميزا على خريطة توازن جديد للقوى الكبرى الأوروبية والإمبريالية عندما حقق نصرا هائلا على فرنسا. كان الثانى هلموت كول وهو أيضا المستشار الذى أعاد لألمانيا وحدتها بعد أن قسمتها هزيمتها فى الحرب العالمية الثانية إلى دولتين واحدة شيوعية والثانية رأسمالية. المثير فى حسابات التاريخ أن تخرج من ألمانيا الخاضعة للنفوذ السوفييتى أنجيلا ميركل، الشابة التى قادتها الظروف أن تتعلم فى برلين فنون القيادة السياسية فى ظروف صعبة على يد كول نفسه. يلفت النظر أن كلا من الثلاثة، بسمارك وكول وميركل قضى فى المستشارية ستة عشر عاما. لاحظت أيضا أن الثلاثة تركوا ألمانيا أقوى وأعظم نفوذا مما كانت عليه قبل توليهم منصب المستشارية.
لسبب ثالث كان اهتمامى بتغيير آلة وأشخاص وأطراف الحكم فى ألمانيا يزداد مع الوقت. إذ حدث بين ما حدث، وهو كثير، أن تغييرا، أو تطورا أقرب إلى التحول، وقع فى البيئة الجيوسياسية المحيطة بصناع القرار السياسى فى برلين. نعرف كيف أن دونالد ترامب الرئيس السابق للولايات المتحدة أثار شكوكا حول صدقية أمريكا ونواياها الحقيقية تجاه أعضاء الحلف الأطلسى. هذه الشكوك تفاقمت فتسربت إلى داخل أجهزة الاتحاد الأوروبى الذى هو فى مكانة قرة عين أنجيلا ميركل وهذا الجيل من حكام ألمانيا. ساد رأى، وما يزال سائدا، فى عموم عواصم أوروبا بأن الرئيس ترامب، وبايدن من بعده، غير واثقين تماما من قوة أمريكا وقدرتها على تنفيذ مهامها فى الدفاع عن أمن القارة الأوروبية ومواقع الغرب فى الخارج. كلاهما لم يرتاحا إلى حال أمريكا. أحدهما وصل إلى البيت الأبيض محمولا على شعار صنع أمريكا عظمى من جديد والثانى على شعار إعادة بناء أمريكا بناء أفضل.
لسبب رابع، يرتبط ارتباطا غير مباشر بالسبب السابق، إذ صرت أضغط على نفسى ووقتى بغية الوصول إلى فهم أوسع لدوافع التغير فى توجهات الرأى العام فى أوروبا. أتصور، وعن حق ونتيجة اختلاط ببعض المتخصصين والقريبين من مراكز العصف الفكرى، أتصور أن كثيرا من صناع الرأى والقرار فى الغرب، وربما فى الشرق أيضا وبخاصة فى روسيا وبدرجة أقل فى الصين، صاروا يصنفون السياسة صنفين، صنف ما قبل الخروج من كابول، وصنف ما بعد الخروج من كابول. المهم أن الخروج من كابول أفرز فى الأوروبيين نوعا من التعالى على أمريكا والأمريكيين.
يجب ممارسة بعض التحفظ هنا، فالتعالى لم يبدأ بالخروج من كابول وإنما تفاقم به. لعله بدأ بوصول ترامب إلى قمة السلطة فى أمريكا. أذكر على سبيل المثال وببعض المبالغة ظاهرة التعالى فى التعامل مع الدبلوماسية الأمريكية، وفى حالات صريحة وواضحة فى التعامل مع رموز الدولة الأمريكية وخصوصا أثناء انعقاد القمم الدولية. صعب ألا نفسر التغير فى قسمات الوجه وتعبيراته عندما كانت المستشارة أنجيلا والرؤساء ماكرون وترودو وفلاديمير بوتين يتحدثون إلى الرئيس ترامب إلا هذا التفسير. للحق يجب أن أذكر أننى لم ألاحظ تغييرا ملموسا على وجه الرئيس الصينى أو لعلها تقاليد الصين التى تحظر على الوجوه أن تعكس ما فى القلوب والعقول. تفاقم التعالى على أمريكا مع مرور الوقت حتى صار بعد الخروج من كابول علامة من علامات تدهور مكانة الغرب وليس فقط تدهور العلاقات داخله.
لسبب آخر عدت للاهتمام بأداء الدبلوماسية الألمانية. لا حديث عن الدبلوماسية الألمانية يكتمل إلا بنصيب وافر من مناقشة دور ألمانيا فى مسألة الوحدة الأوروبية. قيل وعن حق أن أوروبا الموحدة فى نهاية الأمر فكرة فرنسية وجهد ألمانى. وفى هذا الصدد يمكن تفهم أحد دوافع قلق الوحدويين الأوروبيين على مستقبل أوروبا فى غيبة أنجيلا ميركل عن مسارح القيادة فى الاتحاد الأوروبى. يشفع للوحدويين أن خليفة ميركل فى المستشارية الألمانية معتنق للوحدة ومدرب تدريبا جيدا على قيادة الدبلوماسية المالية والاقتصادية لألمانيا وبخاصة فى المسائل الأوروبية ومنطقة اليورو تحديدا. فى الوقت نفسه أتخوف من قصور محتمل فى أداء دور القيادة الألمانية حين تغيب أنجيلا عن مسرح العلاقات الأوروبية الروسية. هنا يكمن الخطر الحقيقى الذى يهدد وحدة أوروبا وسلامها الداخلى ورخاءها الاقتصادى. هنا أرى بوضوح سقوط حاجز المرونة والصبر والكاريزما وكذلك الشكوك البناءة فى قدرات أمريكا الحقيقية ونوايا نخبتها السياسية. كلها علامات أداء دبلوماسى لم تحد عنه السيدة ميركل على امتداد ستة عشر عاما. بدأنا نشهد تصعيدا متعمدا من الطرفين الروسى والأوروبى فى مواجهة معقدة، يأخد التصعيد شكل المشاكسة، روسيا تشاكس بافتعال أو إثارة أزمات حدود وأوروبا راحت تدعو لقمة تشارك فيها جميع دول جوار روسيا بحجة أنها دول جوار لأوروبا أيضا ومنها أذربيجان وأرمينيا وبيلاروسيا وجورجيا ومولدوفا وأوكرانيا. عادت أوروبا تنفذ إجراءات بعضها بتكليفات أمريكية.
فى الوقت نفسه راحت الدبلوماسية الأمريكية من جهتها تتحرك وفق أولويات جديدة قد لا تتناسب بالضرورة وأولويات أوروبا. يتصدر أولويات إدارة الرئيس جو بايدن الحاجة إلى استعادة مكانة أمريكا، وإن لزم الأمر استعادة حالة الحرب الباردة مع الصين أضيف إليها مؤخرا روسيا دون استشارة الحلفاء، وفى غيبة أنجيلا ميركل.
•••
لا أستبق الأحداث ولكنى أردد مخاوف بعض الأوروبيين حين أقترح أن المستشار أولاف شولتس خليفة المستشارة ميركل يقود حكومة غير منسجمة فى تركيبتها الداخلية وأن الوثيقة ذات المائة وسبعة وسبعين صفحة ليست التعويض الكافى عن عدم الانسجام ولا هى الضمان المناسب لدرء تداعياته. كان من أهم علامات عدم الانسجام الهرولة للتدخل فى شأن مستقبل جزيرة تايوان، أى استعجال قرار الانضمام إلى تيار الحرب الباردة الذى تقوده أمريكا ضد الصين، ومن علاماته أيضا الاتجاه لوقف العمل باتفاقية مد خطوط الغاز الروسى، وكان المد مقررا ليسبق قدوم الشتاء. من جهة أخرى أتصور أن الخضر وقد تولوا المسئولية عن إدارة الدبلوماسية الألمانية فى عهدها الجديد لن يتوانوا عن إثارة مشكلات حول التزام الدول بسياسات تحترم حقوق الإنسان ولا شك أن هذا الموقف من تايوان كان بمثابة أول تعبير علنى عن بدء تنفيذ نوايا الخضر، يليه مباشرة التغريدة الصادرة من وزارة الخارجية فى برلين عن شأن داخلى مصرى. هنا تجدر المقارنة بين الأداء الدبلوماسى لحكومة ميركل فى مثل هذه القضايا الحساسة على امتداد ستة عشر عاما وأداء حكومة شولتس المتعددة الأيديولوجيات والألوان منذ تولت السلطة.
لست من عشاق كلمة «ثوابت» عند الحديث عن تجارب الأمم فى صعودها وانحدارها. أفضل كلمة أولويات. أعتقد مثلا أن استقرار أوروبا والحاجة المتجددة إلى تشجيع الهجرة المحسوبة والحرص على التحالف مع أمريكا القوية والتأكيد على ضرورة «تكتيف» الدور القيادى لفرنسا فى أوروبا، كلها وغيرها أولويات يجب أن تأتى قبل المصلحة الضيقة لتيارات وأحزاب ألمانية.