بقلم :جميل مطر
قالت: عدت من نزهتنا تلك الأمسية وفى الصدر ضيق والعقل مشوش. استقبلتنى أمى عند الباب. كانت فى انتظار عودتى من نزهتنا. فضحتها ابتسامتها التى جمعت دائما بين الطيبة والتخابث، ابتسامة رضا أم مشفقة على ابنتها. لم تسألنى لأجيب. ولكن من انكسار فى نظرتى ورعشة فى صوتى وأنا أحييها وأشكرها على انتظار عودتى وصلتها إجابة على سؤال لم يخرج من بين شفتيها.
•••
خرجت للقائك عصر ذلك اليوم وكل أهلى يعرفون أننى أقابلك لأحمل لك نبأ موافقة الجامعة فى أمريكا على طلب التحاق فى برنامج الدراسات العليا. قبل خروجى وبينما كنت على الهاتف أتحدث مع صديقة فى نفس الموضوع سمعت أبى يهمس لأمى فى غرفتيهما عن خشيته أن أعود من اللقاء مجروحة النفس أو القلب أو الاثنين معا. كلنا، باستثناء أبى، فى غمرة فرحتنا بالموافقة لم يصرح أحد فى عائلتى بما كان يتوقع من رد فعل من جانبك. ربما ولأننا فردا فردا فى العائلة كنا نعتبرك واحدا منا تصورنا أنك لابد ستفرح فرحتنا. عرفوا وأيقنوا، تماما مثلما عرفت أنا وأيقنت، أنك تحبنى، يعنى ستفرح لى مثلهم وأكثر. باستثناء أبى أخطأنا التقدير.
•••
لم أنس كيف كان وقع الخبر عليك. كنت، وأنا أقرأ عليك رسالة الجامعة، أمسك بيدك بين كلتا اليدين. ما إن انتهيت إلا ويدك التى تحتضنها يداى الاثنتان راحت تفقد شيئا فشيئا الدفء الذى حصلت عليه من الاحتضان الطويل إلى أن صارت باردة. أصابعك التى كانت قبل أن اقرأ عليك خبر السفر تلاعب أصابع يدى فى حب وحنان تباطأت حركتها حتى سكنت. رفعتها إلى فمى وقبلتها واحدا بعد الآخر. ظلت باردة وساكنة. شردت بعينيك بعيدا عن وجهى. أخذتك منى أمواج النيل المتهافتة بدلال على موقع تحت قدميك ترسو عليه وتنتهى فيه أو تنسحب عنده. مشينا عائدين فى اتجاه بيتى. لم تنطق بكلمة طول الطريق. خفت علينا من السيارات المسرعة فصرت أقودك لأعبر بك الشوارع. اقتربنا من البيت. شعرت بك تسحب يدك من يدى المطبقة عليها بعناد. عند البيت تكلمت كلاما لا رابط بينه وبين رسالة الجامعة أو بينه وبين بعضه البعض. لم أقاطعك. تكلمت عن عيد ميلاد شقيقك وعن انقطاع الكهرباء المتقطع فى بيتكم وعن أخر فيلم لإسماعيل يس. قاطعتك بضغطة على يدك. نظرت فى وجهى نظرة لا معنى لها ولا رسالة فيها. بصوت خفيض سمعتك تقول (مبروك)، وصلتنى خالية من حرارة التهنئة. رأيتك وأنا مندهشة تستدير ملوحا لسيارة أجرة بالتوقف. توقفت تنتظرك. سحبت يدا خلت من أى شعور. تركتنى فى منتصف الرصيف واختفيت داخل السيارة ولم تدر رأسك ولم تلوح بيدك مودعا. وقفت غير مصدقة. انتبهت بعد قليل على صوت البواب يدعونى من بعيد للدخول وركوب المصعد. دخلت وركبت ورأسى منكسة أخفى عن فضوله دموع حسرة.
•••
قضيت الأيام الباقية حتى موعد سفرى منشغلة بالتحضير والتوديع. لم أودع صديقا أو صديقة وجار أو جارة إلا وفى عيونهم أو على ألسنتهم سؤال مكبوت. عشت جميع الأيام وحولى عائلة لا تجيد أى فن من فنون التعتيم. أحاسيسهم على وجوههم. اعترف أننى بذلت جهدا خارقا لإخفاء شعور خيبة أمل أو حسرة أو احتمال فقد عزيز غال، أؤكد اليوم أنه كان بالفعل جهدا خارقا باعتبار أنه صدر عن فتاة لم تتجاوز بكثير العشرين من عمرها، ولم تعرف عن الحب وقتها إلا هذا الحب ولم تتصور أنه يمكن للزمن أن يأتى بمثله. فى الحقيقة وحتى يومنا هذا أنا لا أعرف كيف استطعت وأنا فى هذا العمر الصغير الخالى من تجارب وسير وحكايات أن أحشد كل هذا الجهد. كانت مرحلة شاقة فى الإعداد للسفر والرحيل بعيدا عن الأهل والأصحاب وفى قلبى غصة. أقسمت يوم وصلت إلى المدينة الجامعية ألا أدع غصة القلب تقف فى طريق صعودى العلمى. عرفت أن المهمة كما حددتها ستكون صعبة، ولكن لن تكون مستحيلة.
•••
نجحت ووصلت. درست وعملت مع رجال وصادقت رجالا وتزوجت منهم وأنجبت رجالا حتى تخيلت أنى صرت أعرف الرجال. عرفتهم شبانا وعرفتهم شيوخا. عرفتهم أنواعا وخصالا. فهمت تصرفاتهم أو تفهمت أكثرها وبقى القليل عصيا على الفهم وليس التفهم. ومن هذا القليل تصرفك معى فى تلك العصرية التى حفرت أخدودا فى نفسيتى. أتظن أنى نسيت؟ تخطئ إن راحت بك الظنون إلى هذا الظن. أتعرف لماذا استمرت هذه العصرية حية فى الذهن والقلب معا؟. أبقيتها حية ليبقى حبى لك حيا. قلت لك أن حياتى لم تتوقف. تعايشت مع واقع الحياة وضروراتها وما تفرضه علينا من رغبات وحاجات. تزوجت وحبى لك حى فى قلبى. لم أخف هذا الحب عن صديق عرفته أو رجل تزوجته. ظل شرطا حيويا لحياة مثمرة تخلو من خداع.
•••
تعودت ألا أخفى إلا القليل. لم أخف عنك شيئا هاما، ولا أخفيت عن أمى عواطفى ومشاعرى تجاهك. كثيرا ما نبهتنى إلى أخطاء فى تصوراتى وكنت أستجيب وأصحح ما خاب أو انحرف إلا خطأ واحدا. اختلفنا. أنا اعتبره تصرفا سليما وصادقا ونابعا من طبيعة هذه العلاقة وهى تراه خطأ جسيما. تعودت أن ترانى أغرقك بالتدليل. لم أكن لاترك لك فرصة لتمارس الاهتمام بى وبمصالحى ومستقبلى. أنا التى أرعاك ولا أنام الليل إذا مرضت أو استسلمت لخوف من امتحان أو مقابلة عمل. كم مرة طلبت منك أن تقضى مع أمك وقتا أطول وأن تذهب معها إلى طبيبها وأنت تصر على قضاء الوقت معى. نعم سمحت لك بالاعتماد على وجودى فى حياتك. من خلال علاقتنا اكتسبت خبرات ليست من اختصاص النساء ولم أمنحك الفرص لتكتسب خبرات الرجال وصفاتهم.
الآن وقد وصلنا أنا وأنت إلى ما بعد منتصف العمر أتوق لأسمع منك تفسيرا لتصرفك معى على النحو الذى فعلت فى تلك العصرية. هل كان الخبر مفاجأة لم تتحملها؟ هل خفت تفقدنى؟ هل غلب عليك الظن فى أن يسبق نجاحى نجاحك؟ هل عجزت عن عرض بدائل نلم بها شملنا؟
•••
قالت وقالت وهو منصت حتى انتهت. مرت دقائق قليلة سكت فيها الاثنان. راودتها خلالها الرغبة القوية فى أن تمد يدها كما كانت تفعل قبل سفرها فتمسح بها فوق شعر رأسه. لم تفعل. أرادت لوهلة قصيرة أن تعفيه من الإجابة على أسئلتها. خافت من إجابة تجرح إحساسه فتفقده إلى الأبد. بالفعل راحت تتمنى ألا يجيب. تحركت فى مقعدها استعدادا للنهوض والمغادرة. أشار بيده أن تبقى فلديه فى تلك اللحظة ما يريد قوله. سحبت الكرسى حتى تلامس الكرسيان وعادت تجلس.
•••
نظر إليها بعينين دامعتين وقال: «أعذرينى يا أغلى الناس، لم أكن رجلا».