بقلم:جميل مطر
رن الهاتف معلنًا من شاشته أن السيدة هدايت تيمور تريد التحدث معى فى أمر هام. أما الأمر الهام فتعلق بدعوة من مؤسسة محمد حسنين هيكل التى ترأسها وتديرها السيدة هدايت للاشتراك فى الاحتفال الذى تقيمه المؤسسة ومكتبة الإسكندرية. المناسبة هى افتتاح متحف لبعض مقتنيات الأستاذ من مراسلات ومسودات وقصاصات وصور فوتوغرافية إلى جانب مكتبه الخاص ومكتبته التى تضم مئات الكتب ومن ضمنها المجموعة من تأليفه الصادرة بالعربية والإنجليزية.
لم أندم على قبولى الدعوة رغم أن القبول كان استثناء عن قاعدة تلزمنى بعدم الاستجابة لدعوات وإغراءات وحتى ضرورات تحرضنى أو تحفزنى على الخروج من بيتى. الالتزام واجب التنفيذ إلى أن يصدر الإعلان العالمى بالقضاء النهائى على فيروس الكورونا بتحوارته العديدة. قبلت الدعوة لأننى كنت أحد المتحمسين لفكرة تأسيس متحف لتراث هيكل الفكرى. خفت أن يصيب اسمه ما أصاب ويصيب أسماء كثيرات وكثيرين من قبله ومن بعده أثروا أو أثّروا فى مسيرة الوطن بشكل مباشر وغير مباشر. وقبلت ابنتاى وقف العمل بالالتزام المبرم بين ثلاثتنا بشرط أن تصحبنى الابنة الأصغر وزوجها فى رحلتى الذهاب والعودة. وافقت واعترف الآن أننى غير نادم على قبول الدعوة ووقف العمل بالتزام حظر الاختلاط والسفر. حضرت الاحتفال واطمأن قلبى فالمتحف قام بالفعل وذلك بعد جهد شاق ومحمود وانتقل تراث هيكل من رعاية حنون إلى رعاية علمية ومؤسسية.
لم أندم. لم أندم لأننى رأيت واقعا كان حلما وتحقق فى زمن يعاند الأحلام، ولأننى سمعت شهادتين صادقتين، واحدة من السيدة هدايت رفيقة درب الاستاذ والثانية من الدكتور مصطفى الفقى مدير المكتبة وكان من الأستاذ مقربا ذكيا وعارفا ومطلعا. لم أندم على المجازفة بالخروج والسفر لأننى التقيت فى الحفل أصدقاءً كانوا قريبين منى بحكم التجارب والهوايات المشتركة وأزمنة على تعقيداتها ونكباتها كانت جميلة. تباعدنا خضوعا لأحكام العمر وانتقال السكن من وسط المدينة إلى خارجها وإن بدأ لفترة مؤقتة وطالت. اكتشفت بين مفاجآت عديدة أن الغياب فى هذه الحالة أمهل ولم يهمل. خرجت من الحفل وقد تجددت علاقات ومشاعر كان الظن أن بعضها برد حتى تجمد. عشت فيه لحظات شعرت خلالها بالدفء يسرى من جديد فى عروقى. كنت أرحب بشخص وذاكرتى تسبقنى إلى حكاية أو دور له مع الأستاذ أو معى أو معنا معا. شخص واحد على الأقل بين حوالى مائة مدعو سمحت لنفسى باحتضانه رغم كل المحاذير والإنذارات، رحب بحفاوتى وردها بأحسن منها وغادر دون أن يسأل. لم يسأل لأنه كان يعرف.
• • •
نعم لم أندم. هناك فى قاعة المكتبة وأنا أقف بين الناس مستندا إلى عمود حجرى تأكدت لدى وبشكل قاطع فكرة أن أكتب عن حكاياتى مع الصحافة، المهنة التى لم أولد فيها أو لها، أكتب بالأخص عن حكايتى مع هيكل. أكتب كما كتبت بالإيجاز الممكن قبل مدة طويلة عن حكايتى مع الدبلوماسية، المهنة التى لم أعمل فيها مع كبير يرشدنى إلى أحسن مسالكها وينبهنى لأبتعد عن كبائرها ومطباتها. كانوا كثر الكبار فى السن ولكن ليس فى الخبرة بالدبلوماسية، وكنت صغيرا أنا واثنان هما الزميلان أحمد حجاج وإيهاب وهبة، انتظرنا شهورا كمراهقين خارج ركب البالغين المبلغين بقرارات تعيينهم.
• • •
شجعنى أيضا على قبول الدعوة فرصة أن الزيارة ستكون فى الإسكندرية، المدينة التى ربطتنى بها علاقة حميمة ندر أن أقمت مثلها مع مدينة أخرى فى مصر أو فى خارجها. كانت دائما وأرجو أن تبقى مدينة تغرى. عشت أحلم بها إن غبت عنها وأحلم بها إن أقمت فيها. مدينة لا تمل. هى المدينة التى شهدت بعض أحلى أيام طفولتى وبعض شبابى وعقود ما بعد الشباب. أغيب عنها وأعود إليها، أعود إلى أماكن لم تفارقنى تفاصيلها. أعود دائما فى الإسكندرية إلى التفاصيل، غداء فى مطعم بحى القلعة ملتصق بنادى اليخوت، أو كرسى بمائدته على باب مقهى يطل على كورنيش جليم، أو فنجان قهوة فرنسية ذات صباح فى الطابق الثانى من كازينو الشاطبى، أو مقعد بسينما لا جيتيه الصيفية بشارع مزدحم بحى الابراهيمية أو بسينما صيفية أخرى ملحقة بفندق سان ستيفانو أو بثالثة فى سوق سيدى بشر، أو عشاء على مزاج سيدة سمينة الجسم خفيفة الظل والروح واللهجة الهجين صاحبة المطعم الصغير المجاور لسينما مترو.
تعلمت أن هذه التفاصيل وغيرها هى التى تصنع الحب عموما، حب البشر وحب المدن بخاصة. تختفى تفاصيل ويصنع الحب الدائم لشخص أو لمدينة تفاصيل جديدة. سيدى بشر مثلا. الشاطئ الذى كبرت فيه ولم أكبر عليه. كم بالغت فى حبى له كعادتى مع ما أحب ومن أحب. تصورته ذات مرة بندا على جدول أعمال منظمة اليونسكو بهدف إعادته إلى ما كان عليه بتفاصيل عقد الخمسينيات واعتباره تراثا لا يمسه التحديث والعمران والإنجاب بلا حساب. أذكره ذات يوم فى ذات صيف، وبالتحديد صيف 1955. خرجت كالعادة لشراء لوازم الإفطار وبخاصة ثلاث تتكرر كل صباح على امتداد الصيف، وهى الفلافل والفول والزلابية. أما الفلافل فلها مكانة خاصة فى نفسى. لقد فشلت فى أن أجد مثيلا لرائحتها الشهية فى بيروت والشام وعمان وغزة والقاهرة بل وفى أى حى آخر من أحياء ضاحية الرمل. حتى مطعم محمد أحمد فى قلب الإسكندرية لم يفلح فى أن تفوح من الفلافل التى كان يبدع فى تخليقها رائحة كتلك التى كانت تفوح فى سماء شاطئ سيدى بشر كل صباح.
أعود إلى اليوم الذى قصدت. ففى ذلك اليوم عدت من شراء لوازم الإفطار لأجد فى انتظارى بالشاليه فرحة عامة ورسالة من كلية التجارة تحمل تهنئة بنتيجة التخرج. قضينا اليوم بأسره نناقش المصير. كانت الخيارات فى ذلك الزمن كثيرة. يختار الخريج منها ما يريد هو وما تتمنى العائلة. كان التقدم لامتحان وزارة الخارجية خيارى الأول وليس ما كانت تتمناه أمى. تراوحت الخيارات الأخرى بين التدريس فى الجامعة وقبول وعد المكتبة الأمريكية، التى كنت أعمل بها منذ السابعة عشرة من عمرى، الحصول على منحة لتمويل دكتوراه فى علم المكتبات، وخيار السعى لدى شركة النفط الأمريكية العاملة فى الصحراء الغربية للعمل فى مقر إدارتها بالإسكندرية، وآخر الخيارات خيار التقدم للكلية البحرية. لم يكن بين الخيارات العمل بالصحافة ولو كان هذا الخيار طرح فى ذلك الصيف لربما ترددت فيه أنا نفسى والعائلتان، الصغيرة والممتدة. تشاء الأقدار أن تقودنى من الجامعة فى مونتريال ومعى مشروع لرسالة دكتوراه فى نظريات الصراع إلى صاحبة الجلالة فى القاهرة دعوة من رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام للانضمام إلى مجموعة رائعة من أصحاب التخصصات العلمية الرفيعة تعمل فى مركز خصصه هيكل لدراسة اليهودية والصهيونية وإسرائيل.
• • •
امتدت وتوسعت تأملاتى فى حب الإسكندرية ودورها فى مجمل حياتى، امتدت فى الوقت كما امتدت خارجه عبر الزمن، قوطعت خلال التأمل أربع مرات على الأقل، مرة على صوت نادية شقيقة السيدة هدايت وزوجة صديقى الدكتور نبيل العربى تحيينى وتطمئننى على صحة نبيل، ومرة هدى زميلتى فى الأهرام وابنة الرئيس عبدالناصر وزوجة حاتم صادق المصرفى الكبير وصاحب الخصال الرفيعة، ومرة ثالثة على صوت جيهان المساعدة الخاصة للأستاذ هيكل ورمز الوفاء النادر تهنئنى على حلم تحقق، ومرة رابعة على يد ممدودة تودعنى، يد أحمد ابن الصديق طلال سلمان رئيس تحرير «السفير» اللبنانية المحب الدائم لهيكل وأسرته ولمصر، مصر المكان والمكانة. لم يستطع السفر فكلف أكبر أبنائه وزوجته بالسفر نيابة عنه تلبية لدعوة السيدة هدايت هيكل.
• • •
كعادتى الميئوس من إمكان تغييرها تسربت فى هدوء إلى خارج الحفل والمكتبة حيث كانت تنتظرنى داليا وزوجها كامل. خرجنا إلى الكورنيش المزدحم بلا معنى بمئات السيارات لنمر عبر فندق سيسل ثم فندق وندسور فمنصة الجندى المجهول على مدخل المنشية وجامع المرسى أبو العباس وانتهاء بالقلعة والمطعم الأفضل موقعا فى المدينة التى أحبتنى جدا وأحببتها على امتداد العمر حبا جما.