بقلم - جميل مطر
فتح لنا بواب العمارة أبواب المصعد فدخلت السيدة رشيقة القوام وبعدها الرجل ممتلئ الجسم قليلا وبعدهما حل دورى فدخلت. مرت ثوان اكتشفنا خلالها أن هدفنا مشترك بيننا وهو الطابق الذى يسكن فى إحدى شققه مضيفنا والممثل المخضرم للدبلوماسية العربية وحاليا الأستاذ فى الجامعة الأمريكية الدكتور إبراهيم عوض. فور إعلان اكتشافنا أن الهدف مشترك أعلنت عن هويتى فانفتح المدخل لنقاش فى ظل بهجة دخلنا بهما إلى صالون اللقاء. هناك انضم الحاضرون إلى النقاش وبينهم من الدبلوماسيين علاء الحديدى وأشرف حمدى ومن غير الدبلوماسيين مصطفى كامل السيد وعمرو الشوبكى. على الفور انطلقت سهرة ليست كالسهرات.
تغلب عندى الحنين فسألت شريكتى فى الصعود السيدة أمل مراد عن أحوال سنتياجو دى شيلى، المدينة التى احتلت فى قلبى إلى جانب مدن أخرى قليلة مكانا مميزا. من المهم عند الحديث عن هذه المدينة الخلابة تأكيد أنها سنتياجو عاصمة شيلى وليست أى سنتياجو علما بأن عدد ما تسمّى من المدن فى العالم بهذا الاسم يحسب بالعشرات إن لم يكن بالمئات. انتهزت الفرصة لأجدد بين حضور متفهم حبى وحنينى لها. عشت على امتداد أكثر من نصف قرن استفسر عن حال الحى الذى كنا أهل السفارات نسكنه. كل من زار شيلى أو عمل فيها تلقى منى هذا الاستفسار وآخرهم السفيرة أمل الجالسة إلى جانبى. كثيرون فاجأهم الاعتراف بأننى قضيت فى هذه المدينة أجمل وأحلى مائة يوم فى عمرى. لم تتفاجأ سيدتنا العائدة لتوها من هناك. أغلب الحاضرين تملكهم الفضول المحبب دائما لدى الأشحاص من ذوى الخلفيات الدبلوماسية عندما أثير موضوع رفض الشعب الشيلانى استفتاء تعددت فيه البنود التى توصف عادة بالتقدمية واليسارية المبالغ فيها. دار نقاش طويل وممتع بين أفراد لم يعرض عليهم فى أى يوم استفتاء قابل للرفض. الحقيقة التى باتت واضحة هى أن شعوب أمريكا اللاتينية تعود مرة أخرى لتلقننا درسا جديدا. كانت سباقة قبل قرنين عندما طرحت مشروع وحدة سياسية بين المستعمرات التى استقلت عن إسبانيا. حوربت الفكرة من الخارج وأجهضت. ثم بادرت مرة أخرى عندما طرحت فى منتصف القرن العشرين خطة تنمية اقتصادية واجتماعية لشعوب العالم الثالث استفاد منها جيل كامل من الاقتصاديين فى هذا الجزء من العالم.
تكلم المدعوون أما أنا فانشغلت بحنينى. تكلمت السفيرة التى قضت هناك أربع سنوات وعادت سعيدة بما فعلت. تكلمت عن الحياة فى سنتياجو فرحت أقارن والحنين يغمرنى ويفيض. سألتها عن بيوت وشوارع وأحياء. لم أسال عن جبل كان يطل علينا ونحن سهارى تحت كرمة العنب حتى الفجر نتسلى بأمور عالم فى الشرق بدا لنا من شيلى بعيدا وغريبا. نتخيله فى سهراتنا موطنا للمشكلات والظلم والقمع ولكن أيضا للرسل والعقائد السماوية. وقتها كدت أقتنع بأن وجودى فى شيلى يحمل لى رسالة تحديث وتهذيب وصنع توازن جديد بين العقل والعواطف، توازن يستعيد للعواطف أسبقيتها وغلبتها ويرشد طموحات العقل ويدفعه فى اتجاه العدل والاعتدال.
من فرط حنينى كدت أسأل السفيرة أمل إن كانت قمة الجبل المطل على سانتياجو وعلى بيتنا لا تزال تتسع لاثنين: شابة شيلانية تتقن الإسبانية وتلقنها لشاب من مصر يريد أن يتعلمها.
• • •
لم يكن متصورا أن نبقى طويلا فى سهرتنا أسرى الحنين المتصاعد إلى حياة أهدأ فى شيلى ونتناسى السباق الكبير بين الدول العظمى وبخاصة بين روسيا وأمريكا على تأكيد النفوذ فى أوكرانيا خاصة وبيننا علاء الحديدى السفير الذى قضى سنوات فى موسكو. كان علاء فى عرضه واضحا وصارما، وكلاهما وأقصد الوضوح والصرامة من السمات البارزة فى شخصيته التى خبرها من أثق فى فراسته فى الرجال. تناثر النقاش كما توقعت. لا أحد منا ينكر الوجود الروسى والأمريكى فى مسيرة سياستنا الخارجية منذ ثورة مصر العسكرية. تتأكد وأنت تسمع منطق المتحدثين أن عدم الانحياز لصيق بطبائعنا كأفراد قبل أن نمارسه تكليفا ونقتنع به ضرورة لازمة. كلنا هذا الرجل وإن اختلفت أذواقنا ومصادر شهاداتنا الأكاديمية ومواقع عملنا كدبلوماسيين وأكاديميين وصحفيين.
• • •
لم نختلف على مظاهر الضعف العسكرى الروسى وأسبابه. باستثناء علاء لم يختلط أى منا بالروس فى بلدهم. اختلطنا بهم فى الزمالك وببعضهم فى قواعد التدريب العسكرى أو بقادتهم فى مواقع القرار العسكرى. أزعم أننى لا أستطيع الحكم بنفسى عليهم كما على غيرهم من السلافيين فأنا لم أعش فى وسطهم كما فعل أصدقاء عديدون. إنما نقلت عن أصدقاء عسكريين وزملاء دبلوماسيين ودارسين الحكم عليهم. هم فى رأيى جزء من الغرب متمرد عليه منذ يوم تعرفنا عليهم كعضو كامل العضوية فى صراعات القوى الأوروبية وسباقات التوسع والقوة والهيمنة فى القرون الماضية.
• • •
ننقسم فى الرأى فى الحرب على أوكرانيا؛ لأننا نبدأ من مواعيد وأحداث مختلفة. هل نبدأ بالغزو العسكرى الروسى فى فبراير الماضى، أم نبدأ بالتصعيد الدبلوماسى حول استمرار الحلف الأطلسى فى تمدده فى شرق أوروبا حتى لامس جنوده وآلياته الحربية حدودا مشتركة مع الاتحاد الروسى، أم نبدأ بالتهديد الروسى لأوكرانيا فى حال فكرت قيادته، المتهمة بالفاشية والفساد، الانضمام للناتو، أم نبدأ بضم روسيا شبه جزيرة القرم قبل ثمانى سنوات وتولى حكومة فى كييف تكره روسيا، أم نبدأ بتسرب معلومات عن قرار فى مؤسسة أمريكية هامة بوقف بعض السياسات المعتمدة على استراتيجيات العولمة ومنها الانفتاح على التجارة الدولية الحرة وما يستتبعها من اعتدال ومهادنة وتعاون مع الدول المنافسة على القمة وهما بالتحديد روسيا والصين.
تسربت فى الوقت نفسه تقييمات تؤكد أن أمريكا تراجعت فى مجمل قوتها التنافسية وأنها تنحدر. المرحلة الفاصلة هنا كانت فى أواخر عهد أوباما حين تأكد الاقتناع بانحدار أمريكا والحاجة إلى استعادة أمريكا العظمى والقوية وفى الوقت نفسه وقف صعود روسيا والصين بكل الوسائل ومن بينها الحصار وتسريع التمدد بالناتو والتخريب الداخلى إن أمكن. من أين نبدأ؟ سؤال بحق صعب، ولكنه فى حقيقة الأمر سؤال عن النهاية وليس فقط عن البداية.
• • •
استمر النقاش ممتعا وثريا. أبدع علاء واشترك الجميع. لم نتوقف عن الحديث فى موضوع الحرب الروسية إلا للاستجابة لنداء من مضيفنا الدكتور إبراهيم محذرا من أن عشاءنا سوف نجده باردا إن لم ندلف فورا إلى غرفة الطعام. هناك عاد الحنين يمتلك نواصى تفكيرى. سألت السفير أيمن إن كنا تقابلنا فى إسطنبول. أجاب بأننى لا شك أخلط بينه وبين والده. يا الله لم أكن أدرى بأنى إلى هذه الدرجة هرمت. وجدت نفسى بالفعل أحن إلى يوم قضيته فى مبنى قنصلية مصر فى إسطنبول قبل خمسة وأربعين عاما تقريبا. كنت هناك فى هذه المدينة التاريخية فى مهمة شبه دبلوماسية بتكليف من الجامعة العربية. لن أقول إننى وقعت فى حبها كما يقع المستشرقون وإنما أقول تدخلت وتداخلت عناصر كثيرة أضافت جميعها إلى سحر موقع القنصلية المصرية الواقعة على مدخل البوسفور. أذكر تحديدا سحر الفكرة التى داهمتنى حين وقع نظرى على مركب بخارية تتسع لعدد لا بأس به من الأشخاص راسية أمام سلم يتدرج انحناء أمام المدخل الخلفى للقنصلية. فهمت يومها أن المركب يستخدم للانتقالات الهامة لتفادى ازدحام الشوارع بالسيارات. أظن أن من اشترى المركب وأعتقد أنه أمير من أمراء عهد الملكية وبالمناسبة القصر نفسه من ممتلكاتها الموروثة، كان موفقا وصاحب ذوق ويحق لوزارة الخارجية أن تمجده. أحلم بالمنظر وأحن وأنا أكتب هذه السطور لليوم الذى قضيته فى هذه القنصلية ضيفا.
• • •
قبل أن نصل إلى نهاية هذه السهرة السعيدة فى صحبة ثلة متميزة ثقافة وتاريخا وممارسة، تحدثنا عن مآل موجة اليسار فى حكومات أمريكا الجنوبية. الحديث فى هذا الموضوع يجر معه حديثا ليس فرعيا بحال من الأحوال وهو رد فعل أمريكا وقوى اليمين، وبعضها توحش فى الآونة الأخيرة. كان يمكن أن يتشعب الحديث فيأتى على بوليفيا الدولة الخاضعة لحكم ممثلين عن أطراف من الشعوب الأصلية. كان يمكن أن تصبح نموذجا تحتذيه شيلى لو أن شعبها مرر الاستفتاء الذى كان يسمح بمنح الشعب الأصلى جميع حقوق المواطنة والمشاركة. أقارن اليوم بالأمس، لم نكن نسمع كثيرا ونحن فى سنتياجو عن شعب من الشعوب الأصلية يسكن أقاليم فى شيلى. وقتها نزلت إلى الجنوب واطلعت كدبلوماسى سائح على حياة المابوتشى وشعوب أخرى، حياة شعوب بدون حقوق ولا امتيازات ولا يسمح لها بالزيارة أو الاقتراب من العاصمة وضواحيها. اليوم ورغم رفض الناخبين الاستفتاء أو بسببه لا أحد هناك يضمن مستقبل الاستقرار فى هذا البلد الجميل.
• • •
أشكرك يا إبراهيم وأشكر ضيوفك. بفضلكم عشت ليلة ليست كغيرها من الليالى. ليلة اجتمعت فيها قلوب دافئة مع عقول مستنيرة مع حنين إلى أيام معدودة هى الأغلى وإلى مدينة هى الأحلى.