بقلم :حسن المستكاوي
** قيمة انتصار السادس من أكتوبر 1973 بدأت من هنا.. من مايو 1967. أخذت كرة الحرب تكبر، حين بدأت عمليات فدائية فى الجليل، ثم إعلان التعبئة وتحرك قوات إسرائيلية على جبهة دمشق، واستدعاء قوات الاحتياط فى مصر، وإغلاق مضيق تيران، وتحرك قوات المظلات المصرية إلى شرم الشيخ لحمايتها. وبينما كانت كرة الحرب تكبر، أخذت مشاعر التفاؤل بالقضاء على إسرائيل تعلو.. وفى صباح يوم الخامس من يونيو شنت الطائرات الإسرائيلية غارات على المطارات المصرية، وفى اليوم الثانى سمعنا لأول مرة تعبير «خط الدفاع الثانى» ثم توالت الساعات ووجهت النداءات لقوات الصاعقة المصرية بقيادة جلال هريدى بالعودة إلى قواعدها.
** الصدمة كلمة لا تكفى للتعبير عن حالنا، نحن الجيل الذى عاش معارك وطنه كلها بنبضات قلبه، وخلبته زعامة عبدالناصر وشخصيته الطاغية. وحين أعلن الرئيس تنحيه عن السلطة تحرك الملايين فى كل ربوع مصر ترفض رحيله، وتطالبه بالبقاء والثأر، وكان ذلك ثقة فيه، وكان ذلك تحميله لمسئولية الهزيمة، وكان ذلك هو اليقين فى قدرة القوات المسلحة المصرية. وكان ذلك كله أكبر دليل على قوة الشعب وصلابته ووطنيته، وأن حبة الرمل المصرية، هى جنين، يولد وينمو ويعيش ويموت على أرض مصر.
** مصر لم تنكسر ولن تنكسر. هكذا هى من فجر التاريخ. ليست تلك مجرد كلمات وحروف. لكنها حقيقة سجلها التاريخ منذ آلاف السنين. لذلك كانت حرب الاستنزاف كلها بطولات. وكلها تضحيات. بداية من معركة رأس العش ونهاية ببناء حائط الصواريخ وبناء القوات المسلحة فى عملية إرادة مذهلة.
** سبتمبر 1970 أيلول الأسود. الصراع الذى نشب فى الأردن بين القوات المسلحة الأردنية ومنظمة التحرير الفلسطينية، والدعوة لمؤتمر قمة عربى لإيقاف النزيف. ويبذل عبدالناصر جهدا فائقا، ويأتى يوم 28 سبتمبر وبالمصادفة أعلم فى السادسة مساء، برحيله، قبل إعلان ذلك بخمس ساعات. فأنطلق أجرى بلا توقف فى الشوارع حزنا وألما وخوفا وأبكى بلا نهاية لدموعى.
** ديسمبر 1971. عام الحسم كما قال الرئيس السادات. لكن مصر لم تتحرك للحرب. ربما لأسباب تتعلق باستكمال عمليات التسليح، وربما بسبب الحرب الهندية الباكستانية. فتحركنا فى مظاهرات طلبة الجامعة لكسر حالة اللاسلم واللاحرب. كان تحرك جيل عاش كل لحظة من معارك بلاده بمشاعر وطنية راسخة، ولم يفقد هذا الشعور أبدا لهزيمة أو لقصور أو لظروف معيشة قاسية.
** يونيو 1973. كان الآلاف من طلبة الجامعة فى الإجازة الصيفية يسافرون إلى أوروبا للعمل فى المصانع والمزارع والمقاهى. وكان ذلك تقليدا سنويا.
** أكتوبر 1973. كنا مجموعة شباب فى إنجلترا ونستعد للعودة إلى القاهرة يوم 10 أكتوبر. وفى مساء السادس من أكتوبر دخل شاب المطعم الذى نجلس به وصرخ: «ياجماعة مصر عبرت قناة السويس».. جرينا وهرولنا إلى صحف المساء اللندنية. قرأنا العناوين: «الجيش المصرى يعبر قناة السويس ويخوض معارك ضارية شرق القناة».
** مضينا فى شوارع لندن نبكى ونهتف تحيا مصر.. وعدنا إلى مطار القاهرة يوم 29 أكتوبر. وأخذنا نقبل الأرض. وخارج المطار كانت الرءوس مرفوعة. والوجوه بشوشة وضاحكة وفخورة. إنه شعب عظيم لا ينكسر. وجيل عظيم من الاباء والأبناء كان مستعدا لتضحيات لا نهاية لها من أجل استرداد أرضه وكرامته.
** إن قيمة انتصار أكتوبر أنه رسخ وطنية الشعب المصرى. وهو شعب لا ينكسر. ويملك يقينا فى قواته المسلحة وبأنها الدرع والسيف الذى يحميه.. تحيا مصر كما كانت وكما هى وكما ستكون.