أحلام الأحمدى فى طريقها إلى التتويج على أحد مقاعد مجلس الشعب، بعد أن قرر زوجها حمدى الأحمدى الدفع بها فى الانتخابات القادمة، صورها أصبحت على كل جدار فى الخليفة وتحتها اللقب الذى خلعه زوجها عليها «بنت الخليفة»، كان هذا الأمر موضع حنق «نادية» على «أحلام»، رغم أنهما أختان دفعت بهما إلى الحياة بطن واحد.
كانت ترى أن شقيقتها إنسانة محدودة، فهى لم تكمل تعليمها إلى مرحلة البكالوريا، كما فعلت «نادية»، بل جلست فى البيت من العاشرة من عمرها، لأنها لم تفلح فى الدراسة.
لم تكن «أحلام» تهتم بموضوع التعليم فى الأصل، فيكفيها ما ورثته عن أبيها من جمال الوجه، ومتانة البنيان، وتناسقه، بالإضافة إلى وراثة نعومة وانسدال الشعر عن أمها.
لم يكن موضوع الجمال يؤرق «نادية» كثيراً لأنها كانت على قسط معقول منه، ما أرقها حقاً حالة التمدد المالى الذى بدأ يظهر على أسرة أختها رغم تواضع وظيفة «حمدى» بحى الخليفة، ومظاهر النعمة الآخذة فى فرش مظلتها فوق ابنتهم «نجلاء»، وابنهم «على الدين»، فى وقت كانت فيه الضغوط المعيشية تطحن أسرتها التى يقودها «خالد» وتظهر معالم الطحن عليها وعلى ولديها أسامة وعبدالعظيم.
مقارنات «نادية» بين حالها وحال «أحلام» لم تكن تتوقف، وعالجها «خالد» بالصمت فى أحوال، وبردود مقتضبة فى أحوال أخرى، لكنه كان يخبئ فى داخله تفسيراً لحقيقة التحول الذى حدث لحمدى وأسرته، اكتشفه بمحض الصدفة، منذ آخر مرة أعاد فيها طلاء حوائط بيته، قبل 5 سنوات. كان يسأل عن أنواع معينة من لوازم الطلاء لدى أكثر من «موان» بحى الخليفة، يعرف أغلبهم بحكم الجيرة، حين فوجئ بأحدهم يقول له:
- الموان: لن تجد غراء حمص مهما لفيت ودرت.. مفيش غير الألواح.
- خالد: دى عجين وليست غراء.
- الموان (بخبث): دور فى أهل بيتك هتلاقى؟
- خالد (بغضب وقد أساء فهم جملته): تقصد إيه يا جدع انت؟
- الموان: أستغفر الله.. ما تفهمنيش غلط.. أنا أقصد عديلك حمدى بيه.
- خالد (باستغراب): حمدى؟!.. وبيه.. وإيه علاقته؟
- الموان: ده أكبر مورد لكل لوازم الدهان.. الأول كان بيحن علينا بنفحات.. حالياً ما بيتعاملش إلا مع التجار الكبار. بُهت خالد بما سمع، وصلته معلومات أكثر تفضح حجم المكاسب الحرام التى بدأت تتدفق على حمدى، دون أن يظهر عليه أثر ذو بال. نعم اقتنى العديد من الأجهزة الكهربائية، لكنه ما زال يعيش فى البيت القديم فى الخليفة، رغم ضيقه وعدم صحيته، ولم يتحلحل مثله ليسكن فى عمارة جديدة، مثل عمارة «ابن طولون» التى انتقل إليها. قال لنفسه: طبيعى أن تقفز الثعابين والعقارب فى أوقات الشح، وأن تجد رزقها فيها.. فما الفارق بين المجاعة إلى أنواع من الطعام والشراب، وأصناف معينة من لوازم الطلاء أو غيرها؟. كلها مجاعات لا تختلف كثيراً عما حكاه موفق الدين عبداللطيف البغدادى فى رحلته إلى مصر زمن الدولة الأيوبية حول المجاعة التى ضربت البلاد والعباد أواخر القرن السادس الهجرى، حين ساد الغلاء وتفشى الوباء، وشحت السلع، وقد بلغت حداً من الرعب يفوق أى خيال سينمائى، حكى «البغدادى» أن «الرجل كان يذبح ولده الصغير وتساعده أمه على طبخه وشيه، وأحرق السلطان جماعة فعلوا ذلك ولم ينتهوا، وكان الرجل يدعو صديقه وأحب الناس إليه إلى منزله ليضيفه فيذبحه ويأكله، وصلى إمام مسجد الإسكندرية فى يوم على ما يزيد عن 700 جنازة».
مؤكد أن الشح يخلّف موتى كثيرين، لكنه يورث بعض الأحياء ثراء واسعاً، هؤلاء الذين يجيدون اللعب بالأوراق والتجارة بالظروف، من لا ترهقهم مناظر الانكسار ومشاهد الموت، والذين لا يتوانون عن ذبح غيرهم كى يعيشوا. واصل «خالد» الحديث إلى نفسه قائلاً: مؤكد أن حمدى الأحمدى مثل غيره من هؤلاء اللعيبة الذين لم تكسرهم مشاهد الموت الذى سكن كل حارة بعد حرب 1967، وهرولوا إلى حصد مكاسب الدم الذى أريق فى 73.. أمثاله موجودون حولنا، وهم على استعداد لفعل أى شىء فى سبيل الوصول إلى ما يريدون، هؤلاء الذين كنت أشكوهم لأبى فيضحك ويقول:
- الشيخ عبدالعظيم: غلبتهم شقوتهم.. يجب أن يصعب هؤلاء عليك.. وتحمد الله أن نجاك من الوقوع فى بلائهم.
- خالد (ساخراً): يصعبوا عليّا؟.. لا ما تقلقش عليهم فضيلتك.. عيشتهم زى الفل.
- الشيخ عبدالعظيم: يخيل إليك!.. أنت لست مكانهم.
- خالد (بعصبية): مكان هؤلاء السجن.
- الشيخ عبدالعظيم: لا تفضح أحداً.
- خالد (باستغراب): فضيلتك اللى بيقول هذا الكلام؟!
- الشيخ: كل نفس بما كسبت رهينة.