بقلم - د. محمود خليل
أول ما ترسخه الغربة من أحاسيس سلبية لدى صاحبها هو الإحساس بالخوف، وقد كان المماليك كذلك. فاختطافهم وهم صغار من أحضان أهليهم، ومن دفء البيئات المكانية التي تفتحت أعينهم على الدنيا فيها، ولّد لديهم نوعاً من الخوف، وتعمّق هذا الإحساس لديهم وهم ينتقلون من نخاس إلى نخاس، حتى يستقر بهم المقام لدى واحد من القادة، أو الأساتذة من المجاليب السابقين الذين نالوا حريتهم، ليعيشوا حياة مليئة بالصراعات، الكلمة الأولى والأخيرة فيها للسيف أو الحربة، والبقاء فيه للأسرع انقضاضاً.يقول صاحب كتاب "تراث العبيد": "كان مجتمع المماليك يتعايش معاً بحكم الضرورة.
فالعلاقات بين المماليك ليست علاقات قربى، وليست علاقات جوار اختياري، والعلاقة بينهم وبين أميرهم ليست علاقات أبوة على الحقيقة، وليست علاقات بنوة على الحقيقة، ولا علاقة صداقة، ولا شك أن أميرهم أو أستاذهم أو صاحبهم أو مالكهم كان يراقب بحذر أي تكتلات أو صداقات بينهم، إنما هي علاقات يحكمها الخوف والضرورة، رغم غطاء المجاملات السميك سماكة الخوف الكامن".حياة مغلفة بالخوف عاشها المماليك، وصدّروها إلى الواقع الشعبي الذي تسيدوه.
فكما هزهم الخوف من بعضهم البعض، وكما علمتهم تجربتهم أن الخوف وحده هو الذي يردعهم، وليس "الخشا" أو "الحياء" من فعل الخطأ، اتجهوا إلى التعامل مع أولاد البلد بالمعادلة نفسها، واعتبروا الناس "تخاف ما تختشيش"، لذا فقد تعاملوا معهم باستمالات الترهيب، ورسخوا بداخلهم إحساساً بأنهم تحت التهديد المستمر، وأن عليهم باستمرار الحذر والاحتياط، حتى لا ينالهم الأذى: "مين خاف سلم".
قد يقول قائل كيف يوصف المماليك بالخوف كمحرك أول لسلوكهم، وهم الذين خاضوا أعنف المعارك ضد التتار والصليبيين، وانتصاراتهم في هذا المقام مسطورة بأحرف من نور.
وهذا القول سليم مائة في المئة، فلا يستطيع أحد أن ينكر ما حققه المماليك من انتصارات على الطامعين في العالمين العربي والإسلامي، إلا أن يكون غافلاً، لكنك تستطيع أن تفسر ذلك بتركيبة الشخصية المملوكية التي يحكمها قانون التلاحم عند وجود المخاطر والتناحر عند وجود المغانم.الخطر كان العامل الأبرز في توحيد المماليك.
فما إن يلوح في الأفق خطر يهدد سلطانهم حتى يتوحدوا في مواجهته بأعلى درجات الإخلاص والصلابة، وليس أدل على ذلك من حالة التوحد التي بدوا عليها خلال مواجهة التتار في "عين جالوت" فقد اصطف مماليك المعز أيبك وعلى رأسهم سيف الدين قطز مع مماليك "سيف الدين أقطاي" وعلى رأسهم الداهية العسكرية بيبرس البندقداري، وخاضوا معاً معركة تاريخية تمكنوا فيها من إيقاف زحف التتار لأول مرة في تاريخ المواجهات التي وقعت بين التتار والمسلمين، والتي انتصر التتار فيها بصورة حاسمة، حتى تم كسرهم في "عين جالوت".
كان المماليك يعرفون جيداً كيف يتوحدون في مواجهة الخطر، وما إن يزول حتى يعودوا إلى سيرتهم الأولى، خصوصاً عندما تحضر المغانم، هنالك يطل شبح الصراع وتتفاعل أحاسيس الخوف في النفوس القلقة، ويصبح بمقدورها أن تفعل أي شىء دون "خشا" أو "حياء"، وذلك ما حدث بالضبط بمجرد العودة من "عين جالوت"، فقد استدار "بيبرس" ومعه باقي مماليك "أقطاي" إلى السلطان "قطز" وقتلوه، ليجلس "البندقداري" مكانه على غنيمة السلطنة.