بقلم: د. محمود خليل
ما أكثر ما مد أحد المماليك يد الأذى إلى غيره، أسهل شيء بالنسبة لأي أمير مملوكي أن يعالج خصمه بالسيف، أو بتدبير عمليات الاغتيال، أو دس السم في الطعام أو الشراب، أو دس سم الكلام في أذن السلطان ومن بيده الأمر ليغضب على هذا الأمير أو ذاك، فيوجه إليه سهام عذابه حتى يلقى وجه ربه، ولم يجد القاتل بعد ذلك أية غضاضة في أن يسير في جنازة قتيله، وربما بكاه أيضا.
بعد أن فرغ الأمير بيبرس البندقداري من قتل السلطان "قطز" وأقام له الجنازة التي تليق به، اجتمع الأمراء لمبايعته بحضور سلطان العلماء العز بن عبد السلام، بايع الأمراء، لكن الشيخ رفض أن يبايع، نظر إليه الأمراء وسألوه: لماذا ترفض يا مولانا المبايعة، فأشار الشيخ إلى "بيبرس" وقال إنه ما زال عبداً مملوكاً لـ"البندقدار"، وبالتالي لا يجوز أن يكون سلطاناً، ولم يبايعه إلا بعد أن حلف له الأمراء أن أستاذه "البندقدار" منحه حريته.
مرت الأيام ومات العز بن عبد السلام، وأقيمت له جنازة مهيبة تليق بما حظى به من شعبية خلال حياته، نظر "بيبرس" إلى الجنازة وجموع الناس تسير خلفها وقال: "الآن صفا لي ملك مصر".
والعجيب أن هذه العبارة تكررت على لسان الوالي محمد علي لما علم بوفاة أشد خصومه قوة، وهو الأمير المملوكي محمد بك الألفي، تنفس الصعداء لحظتها، وقال في نفسه الآن أصبحت والياً حقيقياً على مصر، وربما ترحم على الألفي!.تأمل كذلك ما وقع لـ"حسام الدين طرنطاي" نائب سلطنة المنصور قلاوون.
أسدى "طرنطاي" معروفاً كبيراً للمنصور قلاوون وأولاده، حين تمكن من القبض على "سنقر الأشقر" الذي تمرد على السلطنة في القاهرة، وأعلن نفسه سلطاناً على الشام التي كانت تخضع للمنصور قلاوون، أخذ الرجل يطارد "الأشقر" حتى تمكن منه وساقه إلى السلطان في القاهرة.
ولما مات المنصور وآل الحكم إلى الأشرف خليل شكّه أحد الأمراء "دبوساً" أو "مهموزاً" عند السلطان الجديد، فأمر بإحضار "طرنطاي" وسجنه في القلعة ثم قرر خنقه.
قبلها حذر العديد من الأمراء المسكين "طرنطاي" من بطش الأشرف خليل ونصحوه بعدم التعاون معه، لكنه كان شديد الثقة في نفسه، فاستمر في التعاون حتى ساروا في جنازته!.
مشاهد عديدة عاشها الأهالي أيام المماليك شهدوا فيها أمراء وسلاطين يسيرون في جنازات ضحايا بطشهم وغدرهم، فقفز على لسانهم هذا المثل الخالد "يقتل القتيل ويمشي في جنازته" تعبيراً عن هذا الصنف من البشر الذي يغدر صاحبه ثم يجلس فوق جثته باكياً منتحباً، ويجمع صحبته بعدها ويسير في جنازته.
ومن حيث لا يدرون كان بعض الأهالي يجدون أنفسهم واقعين في المطب نفسه، حين يقدم أحدهم على التسبب في أذى غيره، ويبكي عليه بعدها.
تجد ذلك حاضراً على سبيل المثال في مشاهد رواية "دعاء الكروان"، حين أقام الخال مأتماً معتبراً لابنة شقيقته "هنادي" التي قتلها بيديه، جلست فيه النساء يندبن، فنظرت إليهن آمنة بسخط وسألتهم: تبكون علينا اليوم وأنتم الذين طردتمونا بالأمس وألقيتم بنا في الطريق لقمة سائغة في فم كل عابر سبيل؟.. كان لسان حالها يقول: يقتلوا القتيل ويمشوا في جنازته".