بقلم - د. محمود خليل
فى إحدى قصص ألف ليلة وليلة مشهد يمسك فيه أحد الرجال بكرباج يضرب به فرساً -هى فى الأصل زوجته الخائنة- حتى تلف فى دائرة رسمها لها. يهتف الرجل وهو يضربها: «دورى يا دايرة.. لفى فى دايرة.. لا تعرفى أولها.. ولا تعرفى آخرها».
نظرية «الدائرة» تلك هى التى حكمت رحلة جيل الثمانينات، وهى بالتالى القادرة على تفسير المراحل المختلفة التى مر بها أبناؤه. «الثمانينى» يبدأ دائماً من نقطة ينطلق منها إلى اللف، يظل يلف ويدور حتى يعود إلى النقطة التى بدأ منها.
عاش هذا الجيل طفولته فى الستينات والسبعينات وسط مشكلات الحرب والسلام، ومصاعب معيشية متنوعة. تلك نقطة بدأ منها وانتهى إليها.
واجه حيرة ولخبطة فى نشأته، حاول أن يحل لغزها عبر حلقات عمره التالية، لكنه لم يحقّق ما يرجوه من نجاح فى ذلك، وانتهى به الأمر إلى حيرة أكبر ولخبطة أشد وطأة. تلك نقطة أخرى بدأ منها وانتهى إليها.
بدأ رحلة الحياة محكوماً بقواعد تحكم الصعود فى مدارجها، وهى قواعد لا علاقة لها بجهد أو باجتهاد، وتعتمد على منطق فى الاختيار لا يتردد -إلا قليلاً- فى دفع الأسوأ إلى الأمام، وما زالت هذه القواعد وذلك المنطق يحكم حتى اللحظة. تلك نقطة ثالثة بدأ منها وانتهى إليها.
نقاط أخرى كثيرة يمكن أن تسهم فى رسم «الدائرة» التى دار فيها جيل الثمانينات على مدار العقود الماضية، لكن ثمة حقيقة أساسية يتوجب الالتفات إليها، ملخصها أن جميع الأجيال دارت تقريباً فى هذه الدائرة، وحكمت هذه النظرية مسار أغلب أبنائها فى الحياة، يستوى فى ذلك أجيال الخمسينات مع الستينات مع السبعينات مع الثمانينات مع من لحق بهم.
وإذا مددت الخط على استقامته ستجد أن «الوقوع فى الدائرة» قدر إنسانى حكم البشر فى كل زمان ومكان. يقول الله تعالى فى كتابه الكريم: «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ».
الدوران فى الدائرة القدرية المرسومة هو الحقيقة الكبرى فى الحياة الإنسانية. فهى تبدأ من نقطة ضعف وتنتهى عند نقطة ضعف، وفى ما بينهما تدور رحى الحياة على منحنى القوة الوهمية.
الإنسان الحقيقى لا تطغيه لحظات القوة التى يمر بها، ولا تكسره لحظات الضعف التى يعانيها، إنه يعرف كيف يروض نفسه ويكبح جماحها عن الطغيان على الآخرين، ويفهم كيف يقاوم ضعفه ولا يستسلم له حين تدير الدنيا ظهرها له، من عاش بهذه المعادلة هو الأكثر استيعاباً لحقيقة الحياة، الحياة التى يتساوى فيها البشر فى البدء من نقطة ضعف والانتهاء إلى مثيلتها تقتضى من الإنسان أن يمشى على الأرض هوناً، فالبداية معروفة والنهاية محتومة.
فى أحد مشاهد مسلسل «حديث الصباح والمساء»، يظهر «عزيز المصرى» وهو يطلب من شقيقه «داود باشا» التشفّع لتعيين ابنه فى السكة الحديد، يسأله «داود»: ولماذا لا يكمل تعليمه العالى؟ ويعرض عليه مساعدته فى الإنفاق على ابنه، فيرد «عزيز»: كله هيوصل فى الآخر.. اللى راكب السبنسة مع اللى راكب فى البريمو. إنها الدائرة التى يتشارك فيها الجميع.