بقلم: د. محمود خليل
ما أكثر ما تعرضت محمية مصر المحروسة في زمن المماليك لأوبئة فتكت بمن يعيش فوق ترابها، دون أن تفرق ما بين أمير مملوك وواحد من الأهالي من أولاد البلد.
الناس سواسية أمام أمرين: المرض والموت.
لا يوجد إنسان لم يبتل بمرض خلال مسيرة حياته، كما أن الجميع يقابل وجه ربه في الختام.كان الطاعون أكثر الأوبئة فتكاً بالمصريين، إذا دخل قرية لا يترك بيتاً من بيوتها إلا ويطرقه.
في زمن المماليك لم يكن نظام الحجر الصحي معروفاً، وحالة الطب في مصر شديدة التراجع، وبالتالي كان الوباء يجد مرتعاً خصباً، فمن ينج فبإرادة الله، ومن يهلك فبمشيئته أيضاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عندما كان الطاعون يضرب المصريين كان الرجل يموت فيرثه ابنه ساعة من نهار، ثم يموت الابن فيجدّون في البحث عن ورثته، وعندما لا يجدون وريثاً للمال يدفعون به إلى بيت المال. يومها أبدع المصريون مثل: "يا وارث مين يورثك".
لم يكن الطاعون هو الوباء الوحيد الذي يضرب أبناء البر، فبعد أن تراجع وقلت ضرباته، ظهرت الكوليرا، وأخذت تحصد الأرواح في القرى، وقد سجل عميد الأدب العربي طه حسين بعضاً من مشاهد هذا الوباء وهو يحكي سيرة حياته في كتاب الأيام، وقد راح أخوه في أحد الضربات، وهو شاب في مقتبل عمره وطالب في مدرسة الطب.
مشاهد شبيهة عديدة تجدها حاضرة في الأفلام السينمائية وهي تصف أحداث الحياة في مصر أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، مثل فيلم الزوجة الثانية.ضرب الطاعون مصر عام 1791، وساءت أحوال الناس، وهدهم الجوع والمرض وارتجفت قلوبهم وارتعدت فرائصهم وهم يرون مشاهد الموت محيطة بهم في كل مكان.يقول "الجبرتي" في "عجائب الآثار": "لم يبق للناس شغل إلا الموت وأسبابه فلا تجد إلا مريضاً، أو ميتاً، أو معزياً، أو مشيعاً، أو راجعاً من صلاة جنازة أو دفن، أو مشغولاً في تجهيز ميت، أو باكياً على نفسه موهوماً". الحزن كان عميماً، ومن لم يمت بالطاعون مات بالجوع.
ولو أنك فتشت في زوايا ما يحكيه الجبرتي عن أي دور لواحد من أكثر أهل القاهرة ثراءاً في ذلك الوقت، وهو شهبندر التجار "الخواجا أحمد"، خلال "طاعون 1791"، فلن تظفر بحرف واحد، لا يذكر "الجبرتي" أن الشهبندر تبرع من ماله لأحد، أو واسى ببعضه جائعاً، أو مفجوعاً في أب أو أم أو ولد.
لم يكن شهبندر التجار يتصور أن يموت بالطاعون كما يموت الفقراء.
فمثله كمثل غيره من أصحاب المال والأعمال ممن "يحسب أن ماله أخلده"، لكن المقدور وقع والمحذور أتى، فأصيب "الخواجا أحمد" بالطاعون ومات به في شهر شعبان 1205 هجرية.
وجاء وقتها تلميذه وربيب نعمته السيد "أحمد المحروقي"، فاستولى –كما يحكي "الجبرتي"- على أموال الخواجا وبضائعه وحواصله وسكن داره وتزوج بزوجاته.وقال يا وارث مين يورثك.