بقلم - د. محمود خليل
«قلوب من الهم تدوب.. وقلوب تمشى عليها دروب».. مثل مصرى صميم ما أكثر ما سمعناه من الآباء والأجداد فى وصف الظرف الذى يصنع قلباً رقيقاً، والظرف النقيض الذى يصنع قلباً قاسياً.
يربط المثل الشعبى بين الهم ورقة القلب. القلوب يذيبها الهم. فالإنسان الذى يعانى ويكابد يرق قلبه مع كل معاناة أو مكابدة يخوضها، فمن أوجعته هموم الحياة يكون أكثر ميلاً إلى الرقة مع غيره، ومن ذاق طعم الظلم هو الأشد ميلاً إلى العدل، ومن عرف معنى الضعف يفهم كيف ينتصر لضعيف مثله.
فمن دمغ الهم أو الظلم أو الضعف رحلته فى الحياة أرق قلباً وأحن على من حوله. وفى هذا السياق تستطيع أن تتفهم الحكمة الكبرى من ابتلاء الله لعباده فى الحياة، يقول الله تعالى: «ولنبلونكم بشىء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين». فالقلب الذى يصمد أمام هذه الابتلاءات يخرج نقياً سليماً قادراً على العطف والتعاطف «ومن يؤمن بالله يهد قلبه».
فى مقابل القلب الرقيق يبرز القلب القاسى بهالته القبيحة، وهو يسكن نوعاً من البشر فقدوا وعيهم بالحياة أو سارت بهم سيراً هانئاً ناعماً، فتعودوا أن تنال أيديهم ما يرغبون، وأن تطول من يريدون، وتبطش بمن تحب، وتعطى من تهوى، مثل هذه القلوب وصفها الأجداد بأن الإنسان يمكن أن «يسير عليها دروب»، بسبب تصخرها وتصحرها.
يصعب على صاحب القلب القاسى الذى تعود أن كل شىء عند أطراف أصابعه، وأن الكل يهابه، أن يتعامل مع من يظن أنه يتحداه تعاملاً عادياً أو بسيطاً، بل يميل إلى البطش حتى ينعش غرور قوته ويشعر بالسيطرة على الأشياء، ويؤكد لقلبه المتيبس أنه فوق الجميع، وهو يبطش بجبر وتجبر. تأمل الآيات الكريمة التى تقول: «أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين»، وانظر إلى الرباط الواضح الذى يربط بين الإحساس بامتلاك أدوات الدنيا والقلوب القاسية الميالة إلى البطش.
إنها علاقة عجيبة تلك التى تربط بين منسوب التعب فى الحياة وطبيعة القلوب البشرية، فالهم يولد -فى الأغلب- رقة فى القلب وإحساساً أعمق بآلام الآخرين، فى حين أن الحياة السهلة التى تتحقق فيها رغبات الإنسان دون عنت أو تعب، تجعل القلب ميالاً -فى الأغلب- إلى القسوة، وأحياناً القسوة المفرطة.
أقول لك فى الأغلب لأن لكل قاعدة استثناء، فقد تجد بين المهمومين والمتعبين من قست قلوبهم، وقد تجد بين الناعمين المخمليين من رقت قلوبهم ودق إحساسهم بالآخرين، لكن يبقى أن الاستثناء يؤكد القاعدة ولا ينفيها بحال.
فى مسلسل «حديث الصباح والمساء» مشهد تذهب فيه المسكينة المتعبة «فرجة السماكة» لتخطب فتاة «بنت أكابر» لولدها الطبيب الذى تعلم فى فرنسا أيام محمد على، سخر منها الأكابر ومن الحكاية التى حكتها حول ابنها الفقير المنتمى إلى واقعه الشعبى، الذى خطفه عساكر الوالى، وأبعدوه عن حضنها وهو صبى صغير، تنفيذاً للإرادة السامية بإرسال بعثات تعليمية إلى الخارج، نظرت إلى الأكابر قساة القلوب لحظتها وقالت لمرافقتها فى رحلة الإهانة: «تقول لى إيه فى قلوب ماداقتش الحسرة.. وبطون ماداقتش الجوع».