بقلم - د. محمود خليل
ظل حلم الخلود يطارد ذرية عاشور الناجى حتى وصل إلى «جلال الناجى»، قد يكون الحلم الذى اشتعل داخل قلب الشاب ناشئاً عن الوراثة، أو عن صحبته للحرافيش الذين كان منهم أبوه «عبده الفران» والذين كان يؤلمهم أن الفترات التى نعمت فيها الحارة بالعدل قصيرة قياساً إلى تاريخهم الطويل فى المعاناة من الظلم، وكأن دولة العدل ساعة، ودولة الظلم إلى قيام الساعة!
استمع «جلال الناجى» إلى الكثير من الحكايات عن جده الأكبر عاشور، وخليفته شمس الدين، وما تمتعا به من عدل ورحمة، وما امتلكاه من قوة نبيلة هابها عتاة الفتوات واطمأن فى ظلالها كل الضعفاء.
تراجع فى تفكير «جلال» مفهوم «القوة النبيلة»، فما فائدة القوة - أياً كانت درجة نبلها - إذا كانت فانية وإلى زوال؟ أخذ يبحث عن مفهوم جديد للقوة، هو «القوة الخالدة».
لم يكتفِ جلال الناجى بالتربع على عرش الفتونة وسط فرحة الحرافيش بميلاد فتوة جديد من سلسال الناجى، لم يقنع بالانتصار على كافة منافسيه داخل الحارة وخارجها، ففى اللحظة التى كان نبوته يفكك فيها عظام خصمه كان يفكر فى اللحظة الآتية التى لن تقوى فيها ذراعه على حمل النبوت، اللحظة التى عاشها من قبله شمس الدين، ثم سليمان الذى تحول نبوته إلى «عكاز» يتسند عليه الفتوة الذى ضربه الشلل.
سأل العالمين من حوله عن سبيل الخلود، رجع إلى العطارين، لم يجد عندهم بغيته، فما فائدة مقويات لا تصمد أمام عدوان الزمن على آلة الجسد، إنه يريد «إكسير الخلود»، يبحث عن وصفة تمنح جسده شباباً دائماً وقوة لا تبلى، دله أحدهم على أحد السحرة، وكتب له الساحر روشتة القوة الخالدة.
سار «جلال الناجى» على روشتة الساحر، وتنازل له عن أكبر عماراته، وانقطع عن الحارة عاماً كاملاً، وبنى «جلالة» كبيرة (مدنة) أمام حوض البهائم. فغر الحرافيش أفواههم وهم يرون العمال يعملون بهمة فى بناء «الجلالة» التى لا يوجد أسفلها مسجد، يعلو البنيان فيقولون إن هذا آخرها، فيفاجأون بأن العمال يواصلون العمل ويعلون بها أكثر وأكثر حتى باتت تناطح السحاب.
خرج «جلال» من عزلته وهو يملك القوة الخالدة، انبهر الحرافيش بفائض القوة التى بات يتمتع بها، وفرط الشجاعة التى يواجه بها الفتوات وهو واثق من عجزهم عن النيل منه لأنه يمتلك «الخلود».
رغم حلمهم بفتوة عادل دائم من أهل الناجى، إلا أن القوة المهولة الخالدة التى بات يتمتع بها «جلال الناجى» أصبحت تخيف الحرافيش، إنهم يريدون القوة الإنسانية العادية، وليس القوة الشيطانية، فتجارب الحياة علمتهم أن القوة الخالدة لله وحده، ولا يبحث عنها من البشر إلا من اختل ميزان عقله وتفكيره، باتوا ينعتون فتوتهم بـ«جلال المجنون»، هالهم مشهد الجلالة الذى صنعه، بعد أن أصبحت المدنة التى تطاول عنان السماء مرتعاً للقمامة والمهانة.
خاف الحرافيش «جلال الناجى» بعد أن كان بالأمس مصدر إحساسهم بالأمن والطمأنينة، وعلموا أن نهايته لن تكون عادية أو طبيعية، كذلك علمتهم الحياة، وبالفعل جاءت نهاية «جلال» على يد أضعف المحيطين به، وهى «زينات الشقراء» وكانت امرأة على الطريق أحبت جلال واصطفاها هو لنفسه وجعلها خليلته، فأتته الضربة فى الختام من ناحيتها، فدست لهم السم فى الشراب ليلة عرسه، وأنبأته بما فعلت، كان السم يسرى فى أحشائه وهو يضحك، ويرفض فكرة أنه يموت كما يموت الناس، وظل جوفه يشتعل ويشتعل، هرول إلى الشارع أخذ يعب الماء كلما لقيه دون أن يرتوى، وصل فى النهاية إلى حوض البهائم، ارتمى فوق سوره وأخذ يعب منه، حتى سقط ميتاً أمام «الجلالة» التى ناطح بها «السماء».