بقلم :د. محمود خليل
أتعجب كثيراً من الساعات الطوال التى يتم تخصيصها قبل وبعد مباريات الدورى المصرى الذى انتهى يوم الجمعة الماضى.
ذات مرة ألقيت سمعى وبصرى إلى أحدهم وهو يحلل -دون قيد أو شرط على الوقت- لعبة معينة للاعب أضاع فيها هدفاً لفريقه، شرع المحلل يتحدث عن وضعية الجسد حين استقبل اللاعب الكرة، ومستوى الخطأ فيها، وأن اللاعب كان عليه أن يهيئ نفسه وهو يستقبل الكرة بالطريقة الفلانية، ثم تساءل عن موضع القدم الأجدى فى التصويب فى مثل هذه الحالة.. وهل هو مشط القدم أم باطن الرجل؟ ومنه انتقل إلى حارس المرمى وأفاض فى الحديث عن أدائه فى التصدى للكرة، وكيف أنه توقع التسديدة بذكاء وذهب إليها، حيث أتت وكذا وكذا.
لم يكن زمن اللعبة يزيد على ثوانٍ معدودات، لكن تحليلها استغرق من الضيف وكذا ضيوف الاستوديو ما لا يقل عن 15 دقيقة.
تتعجّب أكثر وأ نت تلاحظ أن أغلب هؤلاء المحللين لاعبون سابقون كان فيهم مميزات وعيوب لاعبى اليوم، أو مدربون سابقون يعتبون على مدربى الفرق حالياً أسلوبهم فى إدارة المباريات، رغم أنهم كانوا يقعون فى أخطائهم فى الماضى، كما سمعت أحد المدربين الحاليين يصرخ فى وجه مدرب سابق سلقه بلسان حاد. المسألة لم تعد مقصورة على الاستوديوهات التحليلية على القنوات التليفزيونية، فهناك طابور طويل عريض من اليوتيوبرز الذين يغرقون أيضاً فى وصف مهارات وإمكانيات هذا اللاعب أو ذاك، وكيف يجيد اللعب باليمنى وباليسرى وبالرأس، والإضافة التى يقدمها للفريق الذى يلعب فيه، ولا يفوت عليهم فى هذا المقام شاردة أو واردة، فكل شىء مرصود بدقة.
نحن شعب يحب الكرة، مثلنا فى ذلك مثل كل شعوب العالم، لكننى لا أظن أن محلليهم يستغرقون كل هذا الوقت فى تحليل لعبة فى مباراة، أو يخصّصون ساعات طوالاً لمناقشة المباراة قبل بدئها وعقب انتهائها كما نفعل.
الكرة لعبة مسلية، ومشاهدة مبارياتها تنطوى على متعة كبيرة، ويكفى هذا جداً، لكن الاستغراق والتطويل فى التحليلات، والغرق فى كتابة البوستات الكيدية بين جمهور هذا الفريق وذاك، والتعصب الذى يتجاوز حدود المعقول، يعكس حالة من حالات التناول غير المنطقى لجانب من جوانب الحياة.
تخيل على سبيل المثال، لو انشغل المحللون لدينا بقضايا السياسة والاقتصاد والأسرة والفكر والمجتمع والتنمية والتطوير، وبذلوا فيها الجهد وخصّصوا لها نسبة 10% فقط من الوقت الذى يخصّص لتحليل مباريات الكرة.. كيف سيكون حالنا؟ لست أقصد من حديثى هذا أن يتحول المجتمع إلى «مكلمة» كما يحدث فى عالم الكرة، لكننى أقصد التفكير المركز الإيجابى الذى يضع حلولاً واقعية وعملية لمشكلاتنا، فالأداء الناجح يرتكن إلى التخطيط، والتخطيط أساسه الوعى بأبعاد المشكلة وتطوراتها.
زمان كان الشعب المصرى يوصف بأنه «يفطر فول.. ويتغدى كورة.. ويتعشى أم كلثوم» ولا يفعل شيئاً آخر بعد ذلك، هذه الجملة كانت تتردد كثيراً على ألسنة المصريين بعد نكسة 1967، وكانت تعكس جانباً من أزمتنا، ويوم أن واجهنا أنفسنا بها تمكنا من صنع المستحيل.