بقلم :د. محمود خليل
سعدت شريحة كبيرة من الطبقة الوسطى وكل الطبقة الفقيرة بقرار مجانية التعليم الجامعى، ونجح عبدالناصر فى إرضاء الكثيرين على هذا المستوى، لكن لم يلتفت أحد إلى أن الوجه السياسى لهذا القرار يهز أركان التعليم الجامعى، حين تقرر مجانيته دون أن تكون منظومته مستعدة لذلك.
وكانت النتيجة ارتباك الخدمة التعليمية التى تقدمها الجامعات نتيجة قبول أضعاف الأعداد التى كانت تقبلها فيما سبق، فعجزت المدرجات والقاعات والمعامل عن الاستيعاب ولم يعد فى مقدور الأساتذة منح الخدمة بالمستوى المطلوب.
نسى الكثيرون فى غمرة سعادتهم بمجانية التعليم الجامعى أن الجامعات قبل الثورة وحتى عام 1964 كانت أهلية وليست خاصة. فتمويل التعليم الأهلى شراكة بين الأسر والدولة، إذ يدفع الطالب جزءاً من المصروفات وليس كلها -كما هو الحال فى التعليم الخاص الذى يتحمل الطالب كلفته كاملة- وتتحمل الدولة باقى المصروفات.
على سبيل المثال كانت مصاريف كلية الآداب فى الأربعينات 20 جنيهاً، بينما تكلفة تعليم الطالب بها 52 جنيهاً، ومصاريف الطالب بكلية التجارة 25 جنيهاً، فى حين تصل تكلفة تعليمه إلى 35 جنيهاً، وتكلفة طالب الطب 45 جنيهاً، فى حين يتكلف 148 جنيهاً، ما يعنى أن الطالب كان يتحمل فى بعض الأحوال نسبة 35% فقط من المصروفات. وكانت تلك هى نظم التعليم الجامعى المعمول بها فى كل دول العالم.
بإمكانك أن تراجع رواية القاهرة الجديدة -تحولت إلى فيلم القاهرة 30- وستجد أن مصروفات الجامعة لم تكن مشكلة بالنسبة لكافة شرائح الطبقة الوسطى، بما فى ذلك أبناء صغار الموظفين، مثل محجوب عبدالدايم، القروى الذى كان أبوه موظفاً صغيراً، ورغم ذلك التحق بكلية الآداب.
لم يكن الوضع إذن سيئاً قدر ما كان متوازناً. فالتعليم العام مجانى حتى المرحلة الثانوية، وقد صانت المدارس الجديدة التى أنشأتها الدولة الناصرية الخدمة التعليمية من التردى بسبب الزيادة فى عدد السكان، أما التعليم الجامعى فشراكة بين الأسرة والدولة، والجامعات قادرة على استيعاب الطلاب وتقديم خدمة تعليمية جيدة لهم، لكن تدخل الدولة، ولا أريد المبالغة فأقول «تسييس التعليم» أدى خلال الحقب التالية إلى تردى هذا المصدر الكبير من مصادر ثروة المصريين.
فالتعليم فعلاً أحد مصادر الثروة بالنسبة لمصر، يكفى أن أقول لك إن خريجى الجامعات التى كانت بمصروفات حتى عام 1964 شكلوا الذخيرة الحية التى سافرت للعمل بدول الخليج أواخر الستينات وخلال فترة السبعينات مثلت المصدر الأهم لضخ العملة الأجنبية إلى مصر، وواصل خريجو الجامعات المجانية الرحلة ولم يزالوا حتى اللحظة يمثلون المصدر الأهم والأكبر للعملة الأجنبية لمصر، لكن تقديرى أن هذا المصدر كان يمكن أن يجلب أضعاف الدخل الذى يدره، لو كانت المؤسسة التعليمية لدينا تقدم خدمة أكثر تميزاً.
منحنى التميز فى الخدمة التعليمية بدأ فى الهبوط شيئاً فشيئاً منذ السبعينات. من عاش رحلة تعليمه العام خلال هذه الحقبة يتذكر أن مشكلة الأعداد الكبيرة ظهرت خلال هذه الفترة، فبدأت فصول المدارس وقاعات المحاضرات تضيق على من بها، وكان المعلمون والأساتذة يبذلون جهداً كبيراً للقيام بواجبهم فى التعليم، لكن طاقتهم كانت تنفد شيئاً فشيئاً بمرور الوقت.
تراجعت الخدمة التعليمية فى السبعينات لكنها لم تنعدم، حيث كان يتولى التعليم بالمدارس والجامعات فى ذلك الوقت كوادر تعلمت تعليماً حقيقياً فى مدارس وجامعات الأربعينات والخمسينات.