كانت ليلة طويلة.. فبعد قعدة «الأنخاب» فى بيت العيلة بالخليفة، قرر الثلاثة النزول إلى مقهى تعودوا الجلوس عليه وهم شباب، يقبع أمام مرقد السيدة نفيسة، ويفد إليه كل من يحنون إلى تنسم روائح نفيسة العلم. اختار الثلاثة موقعاً قريباً من المسجد الذى سطعت أنواره بمناسبة أيام الأضحى، وطلبوا «الشيش» والشاى، وشرعوا يشدون ويرشفون. عاد النقاش السياسى بين حمدى وأيمن إلى الاشتعال بجملة خبيثة ألقى بها أيمن:
- أيمن: بيقولوا إن اللى بيدير البلد فعلياً هو الريسة الكبيرة وليس «السادات».
- حمدى (بغضب): تقصد إيه يا أيمن؟.. أنا عارف تلميحاتك الخبيثة دى.
- خالد: يا أخى ما يقصدش حاجة.. الكلام ده فعلاً على لسان الناس من أيام قانون الأحوال الشخصية.
- حمدى: وماله.. الراجل ومراته شركة يا أخى.
- أيمن (ساخراً): هو الجواز بقى شركة؟.. ماكنتش أعرف.
- حمدى: يا أخى إيش حال إن احنا قاعدين فى حضرة سيدة عاملة عالمة.. احكى له يا خالد عن ستنا السيدة نفيسة.
- خالد: كانت صاحبة ثروة ما بخلتش بيها على حد.. عشان كده حبها الناس.. وصاحبة علم وزهد وورع.
- أيمن (ضاحكاً): تمام كده.. إحنا نحب اللى إيده فى بقنا.
- خالد (وهو يضحك أيضاً): أو اللى يقول لنا كلمتين عن الدين الصبح.. ويبلّعهم بالشيشة بالليل.
- حمدى: طول عمر الشعب ده مضحوك عليه بلقمة فى بطنه.. أو بزبيبة فى وش.
- خالد (وهو يتنهد): من أيام الحسن الصباح.
- أيمن: صحيح يا خالد.. واحد من البهرة قال لى قبل كده إن حسن الصباح جه مصر.. صحيح الكلام ده؟
- خالد: حصل فعلاً.. جه أواخر أيام الخليفة المستنصر.. لما اتنازع ولاده الاتنين على الحكم: المستعلى ونزار.. اختلف مع أمير الجيوش بدر الجمالى اللى انحاز للمستعلى.. فى حين انحاز الصباح لنزار.. سجنه الجمالى.. بس قدر يهرب من السجن.. وأسس جماعته «الحشاشين» فى قلعة «ألموت».
- حمدى (بجهل): إيه اللى جاب سيرة الموت دلوقتى؟
- خالد (ضاحكاً): قلعة اسمها ألموت.. زى قلعة الجبل كده.
- أيمن: بس قل لى يا خالد إيه العلاقة بين الحشيش والدين؟
- خالد: اتخذ «الصباح» من قلعة «ألموت» ملجأ آمناً ومخبأ سرياً، وأصبح يلقب بشيخ الجبل، وتحلقت من حوله طائفة تصفها كتب التاريخ بـ«الحشاشين». وقد كان «الحشاشون» يخضعون خضوعاً كاملاً لسلطة وسلطان شيخ الجبل، وكانوا على استعداد لتنفيذ أية أوامر تصدر منه، حتى ولو تمثلت فى إزهاق أرواحهم بأيديهم، أو القيام بعمليات اغتيال لخصوم سياسيين قد ينتج عنها أن يلقى الشخص حتفه. ويُشيع البعض أن الحسن الصباح كان يستخدم مخدر «الحشيش» للسيطرة على أتباعه، بالإضافة إلى الحديقة التى بناها وشيّدها وشقّ فيها الأنهار وتزاحم فيها الحسان والغلمان فى مشهد يتشابه مع الوصف القرآنى للجنة. ويذهب بعض المؤرخين إلى أن «الصباح» كان يسقى المريد شراب الحشيش، ثم يُدخله هذه الحديقة، لينعم بما فيها من أطايب، ثم يُخرجه منها ويطلب منه القيام بعملية اغتيال معينة، ويعده فى حالة موته بإدخاله من جديد إلى هذه الجنة ليخلد فيها أبداً!
ضحك أيمن فجأة ثم قال:
- الآن عرفت سر الدقون والحجاب المنتشر فى مصر.
- حمدى: طبيعى.. دولة العلم والإيمان.
- أيمن (ضاحكاً): بلاش تطجن أوى وتقول العلم.
- خالد: ولا حتى الإيمان.
- حمدى: الإيمان هو اللى بيردع عن الحرام.. شوفوا إزاى إحنا أكتر شعب طيّب فى العالم.. عشان أكتر شعب متدين.
- خالد: التدين الحقيقى يا حمدى......
- أيمن (مقاطعاً خالد): سيبكم من الكلام ده.. قل لى بقى هتعزمنا فى فيلتك الجديدة فى جبل المقطم إمتى؟.. عاوزين نتعرف يا أخى على سيادة النايبة.. (ثم بسخرية): الهانم ساكنة قلعة المقطم.
جبل المقطم.. قلعة الجبل.. لماذا تقترن الأحداث الخطرة فى حياة البشر بالجبال؟.. سأل «خالد» نفسه.. ثم قفز فى ذهنه فجأة الحوار الذى وقع بين صلاح الدين الأيوبى وأخيه العادل فوق إحدى ربوات «قلعة الجبل»، وقف السلطان إلى جوار أخيه ووريث عرشه أبى بكر بن أيوب الملقب بـ«العادل». أخذ صلاح الدين يتأمل البناء الذى لم يزل يعلو بأيدى العمال حتى بات يناطح السحاب المتسكع فى السماء، أخذه المشهد فغاص فيه للحظات ثم تنفس بعمق وقال لأخيه:
- صلاح الدين: أسعدك الله وأسعد أولادك بهذا البناء الشامخ.
- العادل: يا أخى.. منّ الله عليك وعلى أولادك وأولاد أولادك بالدنيا.
- صلاح الدين: لم تفهم ما أقصد!.. أنا نجيب (ذكى) ما يأتى لى أولاد نجباء.. وأنت غير نجيب فأولادك يكونون نجباء.