كان الفجر على وشك الأذان حين خلدت عينا «مازن» إلى النوم.. لم يشعر أنه نام، بل وجد نفسه يقوم ويربت على جسد جده الراقد أمامه برفق وحنان، ثم يتركه ويجلس على الكرسى، أحس فجأة بأصوات تشبه الطرق على الباب، لا إنها أصوات طرق على ميكروفون لتحسس وصول التيار إليه، تلك العادة التى دأب عليها مؤذن المسجد منذ سنين، لا بل طرقات على باب.
خرج من حلمه على صوت طرقات على باب الشقة ورنات الجرس، وأمه تفتح الباب، ليدخل عمه أسامة وولداه صهيب وعمار. قام من النوم الذى لم يغرق فيه إلا لبضع دقائق، فوجد جده جالساً على الكنبة وأمامه أسامة وأولاده يسألونه وهو يقول: الحمد لله.. الحمد لله.. من ورائهم كان يقف عبدالعظيم وخالد الصغير وندى تحمل «مالكاً»، نادى «مازناً» وطلب منه أن ينقله إلى كرسيه الهزاز، حاول أبناء أسامة المساعدة، قال: «مازن» فقط. واستند إلى حفيده حتى استراح على الكرسى، وجلس «مازن» تحت رجليه، ومن خلفه تراص الجميع ما بين واقف وجالس على كرسى.
- مازن: الحمد لله يا جدى.. بقيت أحسن.
- خالد: أشعر أننى سمعت الفجر الكاذب!.
- ندى: لا يا عمى إنه أذان الفجر فعلاً.
- عمار: الفجر الكاذب لغوه قاتلهم الله.. حبوا يعطلوا حديث النبى صلى الله عليه وسلم الذى يقول: «الفجر فجران».
- مازن (وهو ينظر بغضب إلى عمار): مش وقته.. (ثم إلى جده): الحمد لله يا جدى.. بقيت زى الفل.
- خالد: الحمد لله رب العالمين.. أعطانى العمر والذرية وراحة البال.. أعطانى سبحانه حتى اكتفيت.. آه يا فضيلة الشيخ.
- صهيب (فجأة): مين فضيلة الشيخ ده؟
- أسامة (وهو يلكزه): اسكت.. جدى عبدالعظيم الكبير.
- خالد: آه يا فضيلة الشيخ.. أتعبتك كثيراً.. وعاندتك أكثر.. ودائماً ما تجاوب عنادى بابتسامة.. تعلمت الدرس ولكن بعد رحيلك.. مشيت وحدى فى الدنيا.. (ثم نظر إلى أولاده وأحفاده من حوله وقال): وها أنا أرحل بين أحبابى.
- مازن (وهو يبكى): ما تقولش كده يا جدى.. هتعيش.
- خالد: أسمع صوت فضيلة الشيخ يرتل.. نعم فضيلتك سأردد: «وما أوتيتم من شىء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون».. (ثم إلى مازن) اسقنى يا مازن.
دخل الشيخ خالد عبدالعظيم الأحمدى بعدها فى غيبوبة عميقة استمرت لمدة يومين، ومع مطلع فجر اليوم الثالث فاضت روحه إلى بارئها مشيعاً بدموع أبنائه وأحفاده ومحبيه، فى جنازة مشهودة، حضرها مئات البشر من جيرانه ومعارفه ومعارف أبنائه وأحفاده، بالإضافة إلى مئات أخرى تقاطرت من كل حدب وصوب، مجاملة لأحلام الأحمدى التى أصرت على حضور تشييعه بصحبة «نادية» زوجته التى نسيته تماماً بعد انتقالها للعيش مع «أحلام»، ولم تتذكره إلا عندما علمت أنه سقط فى غيبوبة، ولم تمكنها ظروفها الصحية المتعثرة من إدراكه وهو يعيش آخر ساعات حياته، فوصلت وهو مسجى ينتظر الإكرام.
وفى خضم انشغال الجميع بالمشاركة فى التشييع انشغل «مازن» بجمع كتب وأوراق جده المتناثرة فى كل مكان داخل الشقة، وصمم بعد أن عاد من الجنازة على عمل مكتبة فى المنزل يجمع فيها كتب جده الذى حلَّق فى الواقع من فوق «بساط التاريخ».