بقلم: د. محمود خليل
الفكرة التى ينبتها الواقع تكبر وتنتشر وتعبر بين الأجيال، لا لشىء إلا لأنها فكرة واقعية وليست مصنوعة أو مجلوبة من خارج الواقع. كذلك تقول التجربة الإنسانية فى كل المجالات.
يحكى الأستاذ أحمد إبراهيم على موقع «صدى البلد» أن كوكب الشرق أم كلثوم التقطت مطلع أغنية «يا ليلة العيد» من أحد الباعة الجائلين وهو ينادى على بضاعته ويقول «يا ليلة العيد آنستينا»، خلدت الأغنية وعجزت كل الأغانى التى تلتها وعلى رأسها أغنية «الليلة عيد» لياسمين الخيام عن أن تُنسى الأذن المصرية أغنية أم كلثوم. إنها عبقرية الواقع التى اكتشفتها ابنة الواقع المصرى الأصيلة «أم كلثوم».
مسلسل «الشهد والدموع» لم يزل يتدفق فى عقل ووجدان المصريين كلما عُرض، لأنه يحكى قصة مصرية صميمة، ما أكثر تكرار أحداثها فى العديد من العائلات التى تتفرع إلى فرعين: أحدهما فقير والآخر غنى. قصة مصرية بأجواء محلية وأوجاع عائلية وأحداث طبيعية التقطها المبدع الراحل أسامة أنور عكاشة من الواقع وحوّلها إلى دراما.
الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب حكى أكثر من مرة أنه كان يحفظ النغمات التى يرددها الباعة فى الشوارع ويستفيد منها فى ألحانه. ولم تزل هذه الألحان مفضلة لدى الكثير من السميعة، فى وقت تجدهم زاهدين فى أغانٍ أخرى تخلى فيها «عبدالوهاب» عن شرقيته. هنالك تجد أصوات التفضيل تعلو بذكر رياض السنباطى صاحب الألحان الشرقية الشامخة التى استطاعت أن تخترق العقل والوجدان المصرى بأخلد القصائد الغنائية وأبدع المعانى الشعرية.
مسلسل «ريا وسكينة» لم يزل يحظى بنسب مشاهدة عالية بمجرد عرضه، لا لشىء إلا لواقعيته. فمؤلفه الراحل مصطفى محرم استقى مادته وأحداثه من كتاب «رجال ريا وسكينة» ذلك البحث الرصين الذى سطره الكاتب الكبير «صلاح عيسى» وأبحر فيه إبحارة علمية وتحليلية فى مئات الصفحات التى اشتمل عليها ملف التحقيق فى قضية ريا وسكينة.
قِس على ذلك أى عمل نبت عن الواقع، وستجد أن قَدَره النجاح. ليس معنى ذلك بالطبع تقييد خيال المبدعين. بالعكس تماماً. الخيال مطلوب بشرط عدم الغرق فيه حتى لا يغرق العقل فى الخرافة ويتحول الفن إلى حكاوى أطفال تشتمل على أحداث كارتونية تشبه أحداث «توم وجيرى» يقوم أبطالها بأفعال خارقة للعادة وللطبيعة وللعقل.
خيال أم كلثوم وعبدالوهاب كان فى حالة اشتعال وهما يسرحان فى عبارة غنائية يشدو بها بائع، أو جملة موسيقية يروّج بها أحدهم لبضاعته، ويمدان خط الخيال على استقامته لينتجا فناً رفيعاً، ليس فيه استنساخ، بل يعبّر عن وتر خالد فى الروح المصرية. و«السنباطى» كان فناناً عملاقاً مستوعباً بشكل عبقرى لمعالم الروح المصرية والشرقية وترجم أحاسيسها فى أنغام خُلِّدت على مر الزمن. وأسامة أنور عكاشة ومصطفى محرم كانا فى قمة الخيال وهما يلتقطان الأفكار من الواقع والتاريخ، بعيداً عن التسكع على أرصفة المنصات واستنساخ القوالب من هنا أو هناك وحشوها بالـ«أى كلام» والهجص.
عجيب أن يدهس الواقع الإنسان فى كل لحظة، ثم تجد البعض يحلقون بعيداً عنه.