بقلم: د. محمود خليل
كل الشعوب مرت بأزمات، طالت لدى بعضها وقصرت لدى أخرى، فتمكنت من الخروج منها، وهى لم تتمكن من ذلك إلا فى اللحظة التى أدركت فيها السبب فى أزمتها، فتعاملت معه ونجت.
ثمة سبب مشترك تجده حاضراً فى كل الأزمات التى مرت بها الشعوب، يستوى فى ذلك شعوب الشرق مع الغرب، يتمثل فى ضياع الحق.
ضياع الحق يعنى لعنة تضرب بأطنابها فى أرجاء حياة البشر الذين ساهموا فى تضييعه والذين رضوا بضياعه، تأمل حديث النبى، صلى الله عليه وسلم، الذى يقول: «لعن الله قوماً ضاع الحق بينهم».
ضياع الحق له صور وأشكال متعددة:
المعلم الذى يحرم تلامذته من خدمة تعليمية حقيقية داخل الفصول، حتى يضطرهم إلى مجموعات التقوية أو الدروس الخصوصية يهدر حق الصغار فى التعليم، والمسئول الذى لا يحترم حق ولى الأمر فى التحفظ أو الاعتراض على القرارات التعليمية العشوائية يهدر حق الناس المتأثرين بالقرارات فى مناقشتها، وولى الأمر الذى يستسهل إضاعة فلوسه على الدروس الخصوصية، ويؤثر الشهادة على العلم، يضيع حق المجتمع فى التقدم والانطلاق.
الطبيب الذى يتواطأ مع مراكز الأشعة، ومعامل التحاليل، وشركات الأدوية من أجل إغراق المريض فى إجراءات ومصروفات قد لا يكون لها لزوم فى تحسين حالته يضيع حقه، وهو يجور بصورة غير إنسانية عليه حين يسوقه إلى شراء أصناف معينة من الأدوية دون غيرها، خدمة لمصالح شركات أدوية معينة، والمريض الذى يسكت على ذلك يسهم فى إضاعة حق غيره، كما أضاع حق نفسه.
الموظف الذى يجور على المواطن، والمواطن الذى يرضى بأن يسير أعماله بالعطايا كلاهما يضيع الحق. الشخص الذى يسرق فرص غيره وينال من المواقع ما لا يستحقه ويصعد على رقاب من حوله بالنفاق والمجاملات يضيع الحق، والمجموع الذى يرضى بذلك يهدر الحق أيضاً.
التاجر الذى يخزن السلع طمعاً فى المزيد من المال، والمطور العقارى الذى يبيع الشقة بسعر عامين قادمين، والبائع الذى يسرق الزبون، كل هذه أشكال وصور مختلفة لإضاعة الحق.
فى إحدى حلقات مسلسل «حديث الصباح والمساء» يدخل داود باشا المصرى إلى محمد فريد فى زنزانته ليعتذر له عن الحكم الذى أصدره عليه نجله عبدالعظيم بك داود بالسجن، فيرد عليه الزعيم قائلاً: «ابنك هذا بارع.. إنه يستطيع أن يغمض عينيه عما يراه كل الناس ثم يحكم بالعدل.. أليست تلك براعة؟».
بهذه الطريقة يختل ميزان الحق فتضطرب موازين الحياة، ومع هذا الاضطراب تقع المجتمعات فى الأزمات، ليأخذ أداؤها بعد ذلك أحد مسارين: المسار الأول يتمثل فى الرضاء بمبدأ ضياع الحق والتماهى معه، فتتعقد الأمور أكثر وأكثر، وتتعمق الأزمة داخل الجميع حتى تصل إلى الرضيع النائم على صدر أمه، المسار الثانى يتمثل فى حدوث استفاقة يدرك معها الأفراد السر والسبب فى أزمتهم وما أدت إليه من اختلال فى ميزان حياتهم، فيتحركون بشكل سريع من أجل ضبط الأوضاع، وإقامة المختل. فى هذه اللحظة يجدون باب الخروج.