بقلم: د. محمود خليل
إنها النجمة التى تلمع أمام من ينظر إليها من بعيد، وليس يهم ما يتزاحم على خريطتها من طوب وحجارة لمن يراها عن قرب.. من بعيد كان طلاب كلية العلوم المحتشدون فى مدرّج على مصطفى مشرّفة ينظرون إلى النجمة المتألقة المتأنقة نجلاء الأحمدى التى تستضيفها اللجنة الثقافية لاتحاد طلاب الكلية فى ندوة حول المسلسل التليفزيونى الأخير الذى شاركت فيه، لم يكن دورها محورياً أو بطولياً، لكن جهاز الدعاية التابع لها كان يعرف كيف يضخّم كل صغير تفعله.
كان الطلاب والطالبات ينظرون إلى جمالها بانبهار، أما انبهار الأساتذة فكان أكبر. يوم الندوة رفض «عبدالعظيم» إلغاء المحاضرة التى تتزامن فى موعدها مع لقاء النجمة، سمع أحد زملائه يهمس: «المجنون يحرم نفسه من نعمة النظر إلى الجنة»، ضحك فى نفسه وقال: «آه لو تعلمون أن هذه الجنة كانت ساحة عبثى فى يوم من الأيام». لم يزل موجوعاً بحبها، وشوقه إليها يناديه، لكنه تعلّم قهر نفسه قبل أن تقهره الدنيا، فدفن حبه وحنينه فى قلبه، وعاش آمناً فى واحة أسرته التى تضم زوجته الطيبة وولديه.
عندما عاد إلى البيت فى ذلك اليوم وجد أباه يجلس على كرسيه الهزاز إلى جوار الشرفة المطلة على مسجد أحمد بن طولون يقرأ كتاباً عن ثورة 1919. وضع الكتاب جانباً، وسأل عبدالعظيم:
- خالد: ما رأيك فى الجيل الجديد من طلبة الجامعات؟
- عبدالعظيم (ضاحكاً): غريبة.. عمرك ما سألتنى قبل كده عن أى حاجة فى الجامعة.. إيه اللى فكّرك بالطلبة النهارده؟
- خالد (وهو يمسك الكتاب): ثورة 1919.
ما إن سمع «مازن» نجل «عبدالعظيم» صوت جده يحكى حتى هرول من المطبخ، حيث كان يقف مع أمه، وسأله عن ثورة 1919 وما حدث فيها. نظر «خالد» إلى مدنة «ابن طولون» بعمق وكأنه يستجمع منها الحكاوى، ثم قال: كان صباحاً عاصفاً ذلك الذى عاشه الناس يوم 9 مارس 1919، فما إن علم طلبة كلية الحقوق باعتقال سعد وصحبه يوم 9 مارس حتى أضربوا عن الدراسة وتظاهروا داخل الكلية ثم خرجوا منها إلى الشارع، حيث انضم إليهم طلبة الهندسة والزراعة، وتحركت المسيرة الطلابية من الجيزة إلى قصر العينى، حيث انضم إليها طلبة الطب، ومن قصر العينى إلى شارع المبتديان، حيث انضم طلبة التجارة العليا والشريعة، وظلت تسير حتى وصلت إلى ميدان السيدة زينب، وفيه تم القبض على بعض المتظاهرين، وترحيلهم إلى مديرية الأمن. واستيقظ المصريون يوم 10 مارس على إضراب كامل عن الدراسة نظّمه طلاب المدارس العليا انضم إليه طلاب المدارس. توقف «خالد» عن الحكى فجأة وقال:
- خالد: هل تعرف يا عبدالعظيم أن على مصطفى مشرّفة كان يدرس فى ذلك الوقت فى إنجلترا وأراد العودة إلى مصر ليشارك فى الثورة؟
- عبدالعظيم (باندهاش وقلق لما خطرت نجلاء على باله): وإيه اللى فكّرك بمصطفى مشرّفة النهارده بالذات؟.. (ثم فى سره) اللعنة على الزمن الذى جعل مدرجه مرتعاً لصويحبات يوسف.
- مازن: وطلبة إعدادى يا جدى شاركوا فى الثورة؟
- خالد (ضاحكاً): شاركوا حين وصلوا للجامعة.. كل شىء بأوان يا مازن.. فإذا آن الأوان حضر من حضر ورحل من رحل.
لم يبرأ «عبدالعظيم» من حبها، لكنه كان ناقماً عليها، كيف اجتمع الحب والنقمة فى قلبه؟ لا يعرف، كل ما يدركه أن النقمة تتسرب إلى خلايا الحب فتلهبها، لكنها لا تستطيع القضاء عليها. كان يعلم أن «نجلاء» وافقت على المشاركة فى الندوة التى أقامتها الكلية من أجله، وكانت بالفعل كذلك، فقد أرادت الاقتراب منه، كانت تشعر بفراغ، بعد أن طلقها زوجها سراً، كما تزوجها سراً، الأخبار كانت تتطاير وتصل إلى «عبدالعظيم»، لكنه لم يفكر فى غزوها، شىء بداخله كان يؤكد له أنها ستبادر، فالعمر يجرى والجمال يذوى والأضواء تنحسر، وتبقى دائماً بقية. ليس ثمة من بأس أن يقبض بيديه على ما تبقى من «نجلاء»، ويكفيه أنه أول من قطف الزهرة وهى بكر يانعة.