بقلم: د. محمود خليل
دخل الفنان محيى إسماعيل القاعة التى ستشهد الندوة الخاصة بالاحتفال بمرور 200 عام على ميلاد الروائى الروسى «ديستوفسكى»، فوجد فيها 5 أشخاص فقط.. قاعة تستوعب مئات الحضور لا يوجد فيها إلا خمسة.. فما كان منه إلا أن رفض الصعود إلى المنصة وغادر القاعة.
لا نستطيع أن نُقرّر على وجه الدقة هل العزوف عن الحضور ناتج عن أسباب تنظيمية تتعلق بالقائمين على أمر معرض الكتاب لهذا العام، وعدم قيامهم بالدعاية الكافية للأنشطة الثقافية التى تتم على هامش المعرض، أم يرتبط بالجمهور الذى بات عازفاً عن حضور مثل هذه الأنشطة الفكرية والثقافية؟
ربما أسهم العاملان فى خروج المشهد على هذا النحو. فالندوات الشبيهة التى احتضنها المعرض فى الثمانينات والتسعينات -على سبيل المثال- كانت تحظى باهتمام بالغ من جانب رواده الذين كانوا يحرصون كل الحرص على حضورها. يتذكر كثيرون كيف كان يتزاحم المصريون على الندوات الشعرية التى حضرها الراحل الكبير «نزار قبانى»، الذى ألقى تحت سقف إحدى قاعات المعرض واحدة من أروع قصائده: «يوميات سياف عربى»، وحجم التفاعل الكبير من جانب الجمهور مع المعانى التى كانت تتدفّق عبر أبياته الشعرية. وداخل قاعات المعرض كان يحضر أبرز نجوم الفكر والفن فى مصر والعالم العربى، ويشاركون فى ندوات كانت تُعد فى تلك السنوات من أهم الخدمات الثقافية التى يُقدّمها المعرض لجمهوره.
الزمان اختلف بالطبع، فالجيل الجديد من الشباب لم يعد -فى أغلبه- يُقبل على سلعة الثقافة التى يوفّرها معرض الكتاب، فى حين يفضّل أنواعاً أخرى من السلع، ولك أن تتخيل حجم الإقبال والحضور إذا كان الحدث مهرجاناً غنائياً أو خلافه، ولا يعنى ذلك بحال أن الأجيال السابقة لم تكن تُقبل على المنتج الغنائى، لكن أمر الغناء للإنصاف كان مختلفاً، فقد كانت الأغنية هى الأخرى حاملاً لثقافة اجتماعية أو سياسية أو إنسانية، ولم تكن أفكارها تشبه المتداول حالياً فى سوق الغناء.
لكن لكى تكتمل الصورة لا بد أن نعترف بأن جهود الترويج للأنشطة الثقافية بمعرض الكتاب كانت أكبر فى الماضى، فقد كان يعلن عن هذه الأنشطة فى كل الاتجاهات، وباستخدام جميع الوسائل المتاحة، كما كانت وسائل الإعلام تهتم بتغطيتها وسرد ما اشتملت عليه من تفاعلات. ويبدو الأمر مختلفاً حالياً، فحجم الاهتمام بالترويج للندوات الفكرية والثقافية التى يحتضنها المعرض ليس بالقدر أو الفاعلية الكافية، والقائمون عليه يؤدون مثلما تؤدى أغلب المؤسسات حالياً التى أصبح جل همها إيجاد زفات على العالم الافتراضى بوضع بوستات على مواقع التواصل الاجتماعى حول خطوات أو قرارات أو فعاليات تختلف فى قيمتها، ليستقبلوا عليها اللايكات والشير والكومنتات وغيرها، وينامون ملء جفونهم، معتبرين أنهم بذلك قد أنجزوا.
الشغف بالإنجاز الافتراضى أدى إلى حالة الفراغ التى يشهدها الواقع، والتى تجلّت فى خلو القاعة المخصّصة لاستضافة ندوة حول الأديب الروسى ديستوفسكى.. إنها مصر الافتراضية التى تقبع الآن فى المعرض.